الفن والعلاقات العربية ــ العربية

يلعب الفن دورًا مهمًا فى التقريب بين الشعوب ويعالج بعض ما تفسده الأزمات السياسية فى العلاقات بين الدول. وتنطبق هذه المقولة بشكل خاص على وطننا العربى حيث تتشابه فى المجمل الذائقة الفنية لشعوب المنطقة، وساهم التطور المذهل فى وسائل الاتصال فى التعريف باللهجات المحلية العربية بعد أن كانت تمثّل عائقًا أمام انسياب الدراما والأغانى عبر الحدود الجغرافية. وفيما يخص مصر فإن فنها يعد من أقدم وأهم أدوات تعزيز مكانتها بين الشعوب العربية، فإذا تركنا جانبًا الدور الذى لعبته إذاعة صوت العرب فى فترة المد القومى العربى وهذا يحتاج مقالًا بذاته، فإن الفرق المسرحية والغنائية المصرية كانت تجوب البلدان العربية شرقًا وغربًا قبل استقلالها وكانت الشعوب العربية تتفاعل معها تمامًا، فمن الطريف أن نقرأ للكاتب والسياسى الجزائرى محيى الدين عميمور عن الاستقبال الحار ليوسف وهبى الذى زار الجزائر خلال الليل الاستعمارى وأضاءها بروائعه الفنية، وفى المقابل لم يلق فريد الأطرش الترحيب نفسه من الجزائريين لأنه نسى بلادهم فى أغنيته بساط الريح! إلى هذا الحد كان يُنظر للفن المصرى باعتباره مرآة للشعوب العربية، وكان هذا الفن حاضنًا للإبداع المشرقى بروافده المختلفة ثم ما لبث أن اغتنى أكثر بالإبداع المغاربى فى مرحلة تالية.

مدهش أن نتعرّف على دور الفنانين المصريين فى تلحين النشيد الوطنى لسّت من الدول العربية، وقد استعرض الدكتور أحمد يوسف أحمد فى مقاله البديع المنشور بالأهرام عن الموسيقار راجح داوود عام ٢٠١٨ هذا الدور، ومنه يتبيّن لنا مثلًا أن العراق اتخذ من ١٩٦٣حتى ١٩٨١ نفس النشيد الوطنى المصرى الذى لحّنه الموسيقار كمال الطويل وهو نشيد «والله زمان يا سلاحى» ولنتأمل فى دلالة أن يكون لدولتين عربيتين نفس النشيد الوطني، وأن ليبيا عندما غيّرت فى ١٩٦٩ نشيدها الوطنى الذى لحّنه الموسيقار محمد عبد الوهاب فإنها ذهبت إلى نشيد وطنى آخر هو الله أكبر من تلحين الموسيقار محمود الشريف، وكان النشيد الوطنى لمنظمة التحرير الوطنى الفلسطينية فى ١٩٧٢ هو فدائى من تلحين الموسيقار على إسماعيل، وفى الإمارات وموريتانيا وبالطبع فى الجزائر حدث نفس الشيء.

هذا الدور التاريخي، الذى لعبه الفن المصرى فى توثيق العلاقات الشعبية العربية وفى تجاوُز الأزمات السياسية، يتعرض الآن للتحدى بسبب بعض الظواهر الرديئة التى طفت على سطح الحياة الفنية المصرية وتسببت فى الانقسام حولها داخل المجتمع المصري، ثم لم تلبث أن نقلت هذا الانقسام إلى المجتمعات العربية الأخرى.

فى يوم ١٠ ديسمبر الحالى أحيا محمد رمضان حفلًا غنائيًا على مسرح سندباد لاند فى بغداد، وقد بيعت تذاكر الحفل بالكامل وأمطر الجمهور رمضان بهدايا قيل إنها كانت ثمينة. ولّد هذا الحفل وما سبقه من سلوك غير لائق لرمضان بظهوره فى برنامج تليفزيونى وهو يدخن الشيشة، ردود أفعال غاضبة شاركت فيها شخصيات دينية رفيعة، وشخصيات عامة على مواقع التواصل الاجتماعي، واستهجن الجميع استضافة رمضان فى العراق من حيث المبدأ وانتقدوا نوع الفن الردىء الذى يقدّمه. واتكأ المعترضون على أن نقابة المهن الموسيقية فى مصر لها هى نفسها موقفها الرافض لأغانى المهرجانات. وفى انقسام العراقيين ما بين مؤيدى رمضان ومعارضيه كانت السياسة حاضرة بقوة،إذ جرى توظيف الحدث توظيفًا سياسيًا من جانب أحزاب مثل حزب الدعوة وائتلاف دولة القانون اللذين هاجما الحفل بقوة، بينما دافعت حركة امتداد التى انبثقت عن حراك تشرين عن وجوب احترام حرية الرأى والتعبير المنصوص عليها فى الدستور العراقي، وأيدّها نشطاء انتقدوا ترك المشاكل الحقيقية للمجتمع والانشغال بأمر قليل الأهمية. أما السيد مقتدى الصدر الفائز الأكبر فى الانتخابات التشريعية الأخيرة فإنه تفرّد بدعوته لنقل تجربة مصر فى البناء والتعمير وليس فى الحفلات الراقصة التى لا تتوافق مع ديننا وعقيدتنا وأعرافنا المجتمعية، أى أنه ميّز بين ما يؤخذ من مصر وما لا يؤخذ منها.وراحت كرة الثلج تتدحرج بسرعة وتذهب لآفاق بعيدة فهناك مَن ربط الحفل بمخطط أمريكى لاستهداف القيم العراقية واعتبر أن هذا المخطط قديم وجار تنفيذه على قدم وساق. وهكذا يتضح لنا أنه بدلًا من أن يكون الفن معزّزًا للتطور الملحوظ فى علاقة مصر بالعراق سياسيًا واقتصاديًا تسبب هو نفسه فى مشكلة. أما الذى أدى إلى احتواء الأزمة، فكان هو أولًا إلغاء الفعاليات الغنائية التى كان مخططًا لها فى سندباد لاند وذلك لتهدئة الخواطر بعد أن اعتصم عراقيون غاضبون أمامها وقاموا بالصلاة، وثانيًا تكريم الفنان على الحجار الذى يحظى بتقدير عراقى واسع عبّر عنه ذلك السيل من عبارات الترحيب والاحتفاء به فى بغداد حتى غرّد أحد العراقيين قائلًا: أهلًا وسهلًا به فى بلده العراق..إن لم تحمله الأرض قلوبنا سكن له، ولم يصدر فيما تابعت أى صوت يعارض تكريم الحجار فهو فنان كبير يحترم فنه وجمهوره ونفسه.

تحتاج مصر إلى إعادة الاهتمام بالفن الذى كان دائمًا هو أبرز أدوات قوتها الناعمة، ولدينا من وفرة المواهب والقدرات ما يسمح بذلك ويسهم فى إسناد سياسة مصر الخارجية فى محيطها الإقليمى العربي، فالقانون الذى يقول إن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق هو قانون صحيح، لكنه لا ينطبق على وضع تكون فيه العملة الجيدة نادرة وشحيحة، أما حين تغمر العملة الجيدة السوق فحينها لن تستطيع العملة الرديئة مزاحمتها، وسيعود فنانو مصر ليكونوا حلقة وصل مع كل الشعوب العربية.

"عن الأهرام"

التعليقات