غدًا يشرق عام جديد

كانت رائحة حساء العدس تعبق أجواء الشقة قبل أن أخرج منها، لست متأكدة على وجه التحديد من أي طابق تنبعث هذه الرائحة اللذيذة وليس هناك على فكرة مَا يمنع أن تنبعث من أكثر من طابق واحد وأن يعزف من تبقّوا من الجيران سويًا كونشرتو العدس، فالجو شديد البرودة. أقول مَن تبقّوا من الجيران لأن معظمهم نزح إلى التجمع الخامس تباعًا. اليوم هو آخر أيام عام ٢٠٢١ وغدًا يشرق فجر مختلف يحمل بداية عام جديد، وقد نزعتُ للتو آخر ورقة من نتيجة الحائط، وفي الزاوية تنتظر النتيجة الجديدة أن أقوم بعملية الإحلال والتبديل، كل الأشياء تبدأ وكل الأشياء تنتهي. مع أول انعطافة بالسيارة أصادف زهرة بنت القنصل الحبيبة وهي تفترش رصيف إحدى العمارات، كتبت عن بنت القنصل أكثر من مرة فهي زهرة مذهلة تنبت في شهر نوڤمبر وتذوي مع مطلع يناير وكأنها الحارس الأمين الذي يصحبنا في رحلتنا من عام إلى عام، فلا يتركنا إلا بعد أن يتّم رسالته ويطمئن إلى أننا تخطيّنا العتبة بسلام. الشخص الذي يبيع بنت القنصل هو حارس إحدى العمارات، أحب هذا النوع من الفهلوة التي تستطيع أن تستخرج القرش من الهواء الطائر وبطرق لا تخطر على بال أحد، بالتأكيد هذا الحارس لا يعرف أصل حكاية بنت القنصل وأنها سُميّت كذلك- كما يقال- نسبة إلى دبلوماسي أمريكي هو من قام بزراعتها لأول مرة، لكن الحارس يعرف تمامًا أن هذه الزهرة قصيرة العمر لها سوق رائجة في هذه الأيام ويستعد ليكسب قرشين من حصيلة بيعها. تعبير قرش وقرشين مجازي تمامًا، فهذه الوحدة النقدية في طريقها لأن تختفي من التعامل وتُحفَظ في الذاكرة مع وحدات نقدية أخرى أصغر بعضها عاصرته والبعض الآخر سمعت عنه، وسعر بنت القنصل يقترب من مائة جنيه.
•••
حي مصر الجديدة هو من الأحياء التي تجيد الاحتفال بالمناسبات السعيدة، وربما ليس وحده في ذلك، لكني أشعر دائمًا أن تنوعه السكاني يجعله أكثر جرأة في التعبير عن بهجته. قبل حلول شهر رمضان يتحوّل الحي القديم إلى غابة من الفوانيس بكل الأحجام الممكنة، ويغمر العملاق الصيني السوق المصرية بالكثير منها لكن بلا روح. تتدّلى حبال الأنوار الملونة من شرفات المنازل وكأنها مصابيح تضيئ سبيل العابرين وتنير لهم الطريق. يستبيح أصحاب المحلات نهر الطريق ليرصوا الياميش والحلويات وقماش الخيامية وكل مستلزمات الشهر الكريم، ويجوب المنشدون الشوارع يتغنّون بمديح سيدنا النبي، ويلتحق بهم الصغار تباعًا فيطول لعدة أمتار طابور البهجة. وقبل حلول العام الجديد تنتصب أشجار الزينة في كل الميادين، خصوصًا في منطقة الكوربة الحبيبة. ينتشر باعة الأجراس الذهبية وتماثيل بابا نويل عند إشارات المرور، وأحيانًا يطّل علينا بابا نويل بنفسه ليصافح الأطفال ويرحّب بالتقاط الصور التذكارية. هذه الشخصية اللطيفة التي تأتي محمّلة بالهدايا تتسبب للأطفال في حالة من الإثارة الذهنية لا مزيد عليها، ومازلت أذكر التعبيرات على وجوه أطفال العائلة قبل عدة سنوات عندما دخل عليهم شخص يرتدي بدلة بابا نويل وفي جعبته هدايا رمزية، لا يكادون يصدقون أن هناك شخصية حقيقية بهذا الاسم، ولا يستطيعون أن يكذّبوا عيونهم وهم يرون ما يسعدهم. هذا الشعب يصنع لنفسه خلطة عجيبة من الطقوس والعادات والتقاليد التي يتعايش معها ويؤلّف بينها على طريقته. يحتفي بالحياة ويخلّد الموت. يسخر ويسهر ويبالغ ويبدع ويأخذ من كل شيء بمقدار. وهكذا فإنه بينما تتجدد الفتاوي إياها حول تحريم الاحتفال بعيد الميلاد المجيد ورأس السنة الميلادية، تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي صورة امرأة بسيطة ترتدي نقابًا أسود وتمسك بيدها حقيبة مدرسية ثقيلة، أما ابنها فإنه يسير إلى جانبها منتشيًا جدًا ببدلة بابا نويل.
•••
يقولون إن بدايات الأشياء عادةً ما تكون جميلة لأنها بطبيعتها تأتي مسكونة بالغموض والفضول والحماس لتجربة كل ما هو جديد، أما النهايات فأن تكون جميلة أو لا تكون فإن هذا يتوقف على الأحداث التي تقع في المسافة التي تفصلها عن البدايات. هذه المقولة تربكني كثيرًا، فأنا أتعلّق بالأشياء حتى القبيح جدًا منها ولا أفضّل أن ينتهي وجودها في حياتي، لكن في الوقت نفسه فإن النهايات قد تضع حدًا للمعاناة والألم، وفي النهايات يأتي الحصاد وجني الثمار والشعور بالتحقُق. وعندما أفكر مع نفسي لماذا أحبُ شهر ديسمبر بالذات رغم أن كل عام يحمل النهاية لأعمار أقارب وزملاء ارتبطتُ بهم بدرجات متفاوتة من الحميمية، فإنني لا أجد تفسيرًا مقنعًا.. زهرة بنت القنصل وهذا الجو الاحتفالي في العالم كله وفي مصر؟ ربما. المطر واليوسفي والعدس وأناقة الشتاء ولمّة البيوت؟ ربما. كشف حساب ختامي للذات ومراجعة موضوعية للمواقف والآراء الشخصية طيلة اثنى عشر شهرًا كاملين؟ ربما. انتهاء أعباء التدريس وفرصة أكبر للاسترخاء وقراءة روايات معرض الكتاب التي ما صدّقت اقتنيتها؟ ربما. الأمل في أن تقضي ابنتي معنا إجازة الكريسماس ونحتفل معًا بعيد ميلاد حفيدتنا العفريتة؟ بالتأكيد. المحصّلة أنني من الناس الذين يحبون هذه الأيام ويتمنون ألا تذهب وأن تتأخر بداية العام الجديد، وعندما أتابع الأصدقاء الذين يتعلقون بالعام الجديد لعله يأتي لهم بأخبار مفرحة، أتفهم مشاعرهم، لكنني لا أعوّل كثيرًا على الاختلاف بين عامين، فكل الأعوام يأتي في ركابها حزن وفرح.
•••
ساعات قليلة تفصلنا عن عام ٢٠٢٢، سيقضيها كل منّا على طريقته، وفي النهاية سنصل جميعًا إلى نفس النقطة وندخل معًا إلى العام/العالم الجديد، كل عام وأنتم طيبون.
** عن الشروق

التعليقات