مصر الزراعية وآفاق المستقبل

كتب جمال حمدان فى صدر مقدمة كتابه من خريطة الزراعة المصرية والمنشور عام 1984 عن دار الشروق بالقاهرة، كتب يقول: لاتزال الزراعة قاعدة الأساس فى الاقتصاد المصرى المعاصر، مثلما كانت رافعته الفعالة ومحركه الأول وخامته الأولية فى بدايته الحديثة. فلئن كانت الصناعة قد تفوقت على الزراعة فى مساهمتها فى الدخل القومى، فإن الأخيرة مازالت تستوعب القطاع الأكبر من العمالة والقوة العاملة فى البلد... فضلاً عن أنها قدمت قاعدة الانطلاق الصلبة للصناعة أصلاً. ويستطرد قائلاً: وفى عالم انفجر فيه المد السكانى الغامر، بل والطوفان البشرى الكاسح، إلى آفاق غير مسبوقة ولا ملحوقة، بعد أن اختل فيه التوازن أيضاً بين الصناعة والزراعة.. حتى بات يشكو من التخمة فى المصنوعات ومن المجاعة فى الغذاء... فإن الزراعة تعود تلقائياً لتصبح أمل المستقبل بل وصمام أمنه الوحيد مثلما كانت دائماً سند الماضى وسيدته الأولى.

وأحسب أنه يحق لنا أن نقرأ هذا الكلام بعمق ونحن ندشن مشروعا قوميا كبيرا للزراعة يأخذ اسم مصر المستقبل. يبدو الفكر القائم خلف هذا المشروع العملاق وكأنه يملك حاسة استشعار واعية تقرأ جيداً حاضر المجتمع المعاصر ومشكلاته، وتدرك الخطورة فى المشكلتين اللتين وردتا فى كلام المفكر المصرى العظيم: أعنى خطر الطوفان البشرى الكاسح، وخطر المجاعة من نقص الغذاء. وقد يكون فى التقاء الفكرتين دلالة قوية على أن أبناء مصر الأوفياء الصادقين يعرفون سرها، ويدركون اللحظة التاريخية التى يجب أن نتوقف عندها ونعرف عمق التحدى وخطره. حقيقة أن هناك ما يقرب من أربعين عاماً تفصلنا عن الوقت الذى كتب فيه جمال حمدان هذا الكلام، ولكن الظروف التى أشار إليها لاتزال قائمة، بل إنها ربما تفاقمت وازداد خطرها. ومن هنا فإن الفكر القائم وراء مشروع مصر الزراعى المعاصر، يعتبر امتداداً وتطويراً لنفس الفكر، وادراكاً عميقاً لحجم التحدى وخطره.

يأبى الفكر الجديد للجمهورية الجديدة أن يترك الظروف المولدة للتحدى كما هى، تتراكم وتتراكب ويزداد خطرها، ولكنه يجاهد من أجل تغييرها، لا بالكلام، لكن بواسطة الإنتاج الفعلى الذى رأيناه يتدفق أمام أعيننا فى أثناء تدشين المشروع. وقد يكون مفيداً أن نتأمل هذا المشهد على أصداء كلمات جمال حمدان، وأن نستخرج منه بعض الدلالات والمعانى التى أسوقها فيما تبقى من هذا الحديث.

من أولى هذه الدلالات ما يتعلق بطبيعة المجتمع المصرى وتاريخه الطويل فى الزراعة. فالحضارة المصرية تصنف دائماً على أنها حضارة نهرية نمت وازدهرت على ضفاف النهر الذى مكن السكان من الاستقرار واستخدامهم الأرض الفيضية على ضفتى النهر فى زراعة محاصيل عديدة، تجود عليهم بكل الطيبات والخير. لقد أحب المصريون الزراعة، فرسموا الآلات التى يستخدمونها على معابدهم وفى مقابرهم، ووضعوا مع أجساد موتاهم بعض حبات القمح لتنفعهم فى حياتهم الآخرة. ولقد كانت مصر بلداً زراعيا بكل المقاييس، ولم يستطع أى مؤرخ كتب عن مصر أن يتجاوز فى حديثه عنها موضوع الزراعة أو أن يهمله. وعلى هذه الخلفية فإن من يعتبر أن الزراعة هى «سند الماضى وسيدته الأولى» ومن يعتبر أن الزراعة هى عماد «المستقبل»، يكون قد أدرك الجوهر الحقيقى للحضارة المصرية وتاريخها المشرق.

وثمة دلالة ثانية تتصل بالمحاصيل الزراعية المصرية. فالتاريخ يدل على أن هذه المحاصيل متنوعة ومتجددة. وقد تحدث جمال حمدان فى كتابه عن هذه المحاصيل، وأكد التنوع والتقابل بين المحاصيل، وضرب أمثلة عديدة على المحاصيل الجديدة التى عرفتها مصر الحديثة. ويدل ذلك على أن مصر ليست بلد المحصول الواحد، وأن الحاجات الغذائية متنوعة ومتكاملة، وأن الحرفية الزراعية المصرية يمكن أن تكون يوماً ما محققة للاكتفاء الذاتى. والمتتبع للحوارات التى دارت حول مشروع «مستقبل مصر الزراعي» يكتشف أن ثمة قناعة بالتنوع المحصولى، وثمة قناعة بالتدرج فى الإنتاج حتى تحقيق الاكتفاء الذاتى، وأن السلة المحصولية المصرية تستطيع أن تعود إلى امتلائها حتى وإن تحدتها الزيادة السكانية.

وثمة استخلاص مهم له دلالة فى عملية التنمية الاجتماعية التى تشهدها مصر الآن. مفاد هذا الاستخلاص يرتبط بالأعمدة الأساسية لهذه العملية التنموية. لن أخوض هنا فى مكونات هذه العملية وأولوياتها، ولكن أؤكد فقط فكرة محورية وهى أن الركن الركين لهذه العملية هو الإنتاج الزراعى والصناعى، وما يحيط به من أنشطة مولدة للقيمة. وفى هذا الإطار فإن الطريق إلى بناء مجتمع جديد لا يتحقق بتنمية هلامية جوفاء لا تأتى بخير، وإنما يتحقق من خلال تطوير العمود الفقرى للتنمية، وهو الاقتصاد، وما يحيط به من متطلبات فى البنية التحتية والخدمات المساعدة. صحيح أن كل المكونات الأخرى للتنمية ضرورية وعلى رأسها بناء الإنسان، وتصحيح المسارات القيمية والأخلاقية، وحماية الضعفاء وذوى الحاجة، ولكن كل هذا لا يتحقق إلا بفيض اقتصادى كبير ووفير.

وتبقى دلالة مهمة ترتبط بالفلاحين كطبقة اجتماعية منتجة أو كفئة اجتماعية تشكل كتلة كبيرة من السكان. لقد أهملت شئون الفلاحين لفترة طويلة من الزمن، إلى درجة أن ثقافة الفلاحة نفسها باتت على المحك، وأصبح السفر إلى المدن وإلى الخارج هو خلاص الكثيرين من أبناء الريف. وأدى كل ذلك إلى خسائر ثقافية كبيرة للفلاحين الذين أصبح ينظر إليهم على أنهم أميون جهلاء يحتلون الراق الأدنى من العالم الثقافى. وأحسب أن الثورة الزراعية المأمولة من مشروع «مستقبل مصر الزراعي»، متعاضداً مع مشروع «حياة كريمة»، يمكن أن تغير هذه الأحوال، بأن تبث طاقة جديدة فى ثقافة المجتمع وتحثها على أن تتغير فى الاتجاه المعاكس لتعطى الفلاح حقه الطبيعى، وأن تعيده إلى احترام ثقافته، وإلى الاستمتاع بالزراعة والفلاحة، بل والفخر بها. وإذ أعبر عن هذا الأمل، فسوف أختم حديثى بأمل أكبر وأوسع نطاقاً، وهو الأمل فى أن تتغير ثقافة المجتمع بحيث يعاد تقدير الطبقات والفئات الاجتماعية لا فى ضوء ما تمتلكه من سلطة ونفوذ، ولكن فى ضوء ما تسهم به فى إضافة القيم الاقتصادية والثقافية إلى الثروة المصرية.

التعليقات