رسالة إلى الأزهر.. هل يفعلها؟

فكرة هذه الرسالة قديمة، ربما تعود إلى سنوات شبابى، مع توقفى راصدًا ظواهر التدين فى بيئتى الريفية، على رأسها مولد «سيدى رجب»، وهو شيخ يصفه الأهالى بأنه من أولياء الله الصالحين، وله مقام فى عزبة تتوسط قريتى مناوهلة وكفر مناوهلة على طريق جانبى بين شبين الكوم والباجور بالمنوفية، ويقال إن السيد «رجب» كان جنديًا ورعًا فى جيش أحمد عرابى، واستشهد فى الحرب ضد الإنجليز، وحين جاءوا بجثمانه ليدفنوه، طار نعشه إلى قبره.

صدّقتُ الحكاية صغيرًا، وكنا فى المولد نركب المراجيح ثم نذهب إلى حلقة «الذِّكْر، نصطف مع الذاكرين ونميل يمينًا وشمالاً هاتفين (الله حى)، وحين كبرتُ وتعلمتُ رحتُ أفكك الحكاية، واعتبرتُ المولد «احتفالية فولكلورية» سعيدة، يُولم فيها الأغنياء للفقراء، ويسرع إليها الناس من كل حدب وصوب، يتوجهون لله بالدعاء، وينتعش الحال الاقتصادى أيامًا.. إلخ، لكنها ليست من صحيح الدين.

لكن أكثر حاجة استوقفتنى وقتها كانت «شهادة القرويين» بالبخارى كلما وقع اشتباك خفيف على أشياء بسيطة ويُبرئ المخطئ نفسه قائلاً: هو أنا غلطت فى البخارى!.

وتصورتُ أن «البخارى» من مرادفات الأسماء لكتاب الله، وكانت صدمتى زلزالاً حين تعلمت أن البخارى هو «إمام» جمع الأحاديث النبوية فى كتاب هو «الجامع الصحيح المسند المختصر من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسُننه وأيامه»، ويعرفه المسلمون بـ«صحيح البخارى»، وتساءلتُ: كيف يستشهد بسطاءُ الناس باسم إمام دليلاً على صدقهم؟، كيف وصلوا إليه؟، ومَن الذى عَلمهم ذلك؟، وما الذى يجعل الغلط فى البخارى جريمة عُظمى؟، ألا يدركون أن الشهادة بغير اسم الله معصية قد ترتقى إلى الشرك وهم لا يقصدون؟، كيف يحدث هذا فى بلد فيه «الأزهر»، أشهَر جامع خارج مكة والمدينة والقدس، وثانى أقدم جامعة إسلامية على وجه الأرض؟

وبدأت فى جمع كتب الأحاديث، واقتنيت الكتابين الأكثر تداولاً: الجامع الصحيح للبخارى، وصحيح مسلم، ثم خصصت وقتًا جيدًا للقراءة فى كتب الحديث عمومًا، وبَعدها فى تاريخ تدوينها.

بالطبع بهرتنى الأحاديث التى تسمو بالخُلق الطيب والقيم الرفيعة والتسامُح وحُسن المعاملات والتفاصيل المتعلقة بالإيمان ومفاهيم القرآن، وأيضًا توقفتُ محتارًا أمام أحاديث لم أتصور أن الرسول الكريم قالها، إمّا لأنها تعارض نصًا قرآنيًا أو تنافى العقل وسلامة الذوق وأثبت العلم عدم صحتها مثل حديث الذبابة والعلاج بـ«بول الإبل» وحديث التمرات السبع التى إذا أكلها إنسان فى الصباح لا يضره سم ولا سحر فى ذاك اليوم.. إلخ، أو أحاديث نقلها البعض عن الرسول تمس دقائق حياته الخاصة ولا أجرؤ على ترديدها هنا، كما آلمتنى وقائعُ وردت فى كتب السيرة مثل زواجه من السيدة عائشة وهى بنت تسع سنوات، ولم يكن عمرها صحيحًا، بأدلة وقرائن موجودة فى كتب لم تنل حظها من الذيوع والانتشار؛ خصوصًا أن السيدة عائشة، كما هو مدوَّن، كانت مخطوبة قبلها لـ«مطعم بن جبير»، فيا ترى كم كان عمرها وقت هذه الخطبة إذا كانت قد تزوجت وهى فى التاسعة؟، نهيك عن حكايات تناهض تمامًا ما خص الله رسوله بصفات فى قرآنه، وهى الحكايات التى استغلها المستشرقون فى حملاتهم الشرسة على الإسلام ونبيه طعنًا وتجريحًا، مثلما فعل الكاتبان الفرنسيان لو ميريس وجاستون دوجاريك اللذان كتبا فى السيرة النبوية، وقالا فى مقدمة الكتاب إنهما يرويان سيرة نبى الإسلام كما كتبها أتباعه لا يزيدون حرفًا واحدًا، وقرأتُ عشرات الكتب التى تحاول أن تبرّر الوقائع المنسوبة للنبى، وتبين ضلال المعانى التى فهمها الغربيون منها، باختصار تعاملت هذه الردود مع تلك الوقائع كما لو أنها حقائق مؤكدة، وهى ليست كذلك.

من هنا راودتنى فكرة رسالة إلى الأزهر، الجامعة الإسلامية الأشهَر بين المسلمين كافة، أسأله فيها: ألم يحن الوقت بعد مرور ما يزيد على 12 قرنًا من كتب البخارى ومسلم والنسائى وأبى داود والترمذى وابن ماجه وغيرها من كتب السيرة والشروح أن ننتج منهجًا جديدًا فى دراسة الأحاديث (السُّنة عمومًا) غير منهج السلف من الأئمة والشُراح؟

قطعًا لا نريد قطيعة مع تراثنا، ولا نسعى إلى هدمه أو حرقه أو التقليل من قيمته أو التخلى عنه، أو التوقف عن دراسته فى قاعات البحث، فهو دليل حىٌ على تطور فكرنا الإنسانى فى فهم ديننا، لكن الوقوف عندهم خشوعًا هو «حجر» على العقل الإنسانى وتجميده فى لحظة تاريخية، وبالطبع لا نريد أن نبدل ديننا أو نعدل ثوابته أو نتآمر عليه كما يشاع، فالدين مختلف عن فهم الناس له، الدين من السماء، والفهم من الأرض، الدين ثابت وعقل الأرض يتطور بحُكم مَعارف جديدة وقدرات جديدة، الله مُطلَق وفهمُ البشر حالة متغيرة.

ورسالتى عبارة عن سؤال: لماذا لا يجتهد الأزهر- جامعةً وجامعًا- فى منهج جديد لا يعتمد فى تصنيف الحديث النبوى على الإسناد فقط أى رواة الحديث وصولاً إلى السَّنَد (عِلْم الرجال)، ويتأسّس على المَتن حُكم عليه، فالمتن له مرجعية تنصف الإسناد أو تنفيه، وهى كتاب الله بمفاهيم القرآن الكلية ومقاصد الرسالة السماوية؛ بينما الإسناد جوهره مدى صدق الرواة، وهو أمْرٌ يصعب الجَزم به، وقد ثبت أن عددًا من هؤلاء الرواة لم يكونوا صادقين أو يحيط برواياتهم شك كبير، وقد أقر أئمة الحديث بذلك فى كتبهم جرحًا وتعديلاً، وقد اختلفوا أيضًا فى تقويم صدق أو كذب بعضهم، وقد كَذَّبتْ السيدة عائشة على سبيل المثال روايات لابن عباس وروايات لأبى هريرة؛ بل إن أبا هريرة نفسه تنصل من بعض رواياته كحديث النهى عن صوم يوم الجمعة، وإفطار الرجل إذا أدركه الصبح جُنُبًا، وحديث الطيرة فى ثلاث: المسكن والمرأة والفَرس، والطيرة هو التشاؤم.. إلخ.

والاعتماد على الإسناد وحده انتهى إلى أربعة أصناف من الأحاديث: الصحيح، الحَسن، الضعيف والموضوع، وعامّة المسلمين ليسوا ضلعاء فى علم الحديث أو فى علم الرجال، وقد يُفتنون بأحاديث ضعيفة أو موضوعة، وأغلبها إسرائيليات؛ بل سقط فعلاً أعداد كبيرة من عامّة المسلمين وأيضًا الدارسين فى فخ هذه الإسرائيليات ومنها أحاديث آخر الزمان، ولا يزال الاستشهاد بها موصولاً ومؤثرًا إلى يومنا هذا، ولم يفلح وصف ضعيف أو موضوع فى وقف كثير من المسلمين عن العمل بها فى علاقاتهم بالمجتمع والآخرين، وهذا لا يعنى أننا ندعو إلى هَجْر الكتب القديمة أو إنكار علم الرجال؛ وإنما أن نصف الأحاديث وفق متونها إلى جانب رواتها، والمتون كما قلتُ لها مرجعية حاسمة:

- القرآن نصًا ومفاهيم كلية ومقاصد.

- ما يتفق والعقل والعلم الذى ثبت صحته، والإسلام دين عقل ومعرفة وحض على التدبر والتفكر، أى التفكير العلمى المنظم، وكلنا نعرف ثوابت الدين.

- ما يجتمع عليه العلماء على أنه من السُّنة الصحيحة.

- ما يحقق مصالح الأمّة؛ أفرادًا وجماعات دون أن يناهض أو يخالف نصًا قرآنيًا أو مقاصد الشريعة.

يبقى سؤالان فى غاية الأهمية: لماذا الأزهر؟، ولماذا الآن؟

أتصور لو أن الأزهر أخرج كتابًا باسم «الجامع الصحيح للأزهر من الحديث النبوى»، يشرح فيه منهجه فى البحث والدراسة والتصنيف سيكون حدثا فريدًا يضيف للأزهر رونقًا جديدًا ودورًا مُهمًا فى تجديد الفكر الإسلامى، صحيح أن مئات المفكرين والكُتّاب كتبوا فى تجديد الفكر الإسلامى كعباس محمود العقاد وعبدالمتعال الصعيدى ومحمد أركون وعبدالرحمن الشرقاوى ومصطفى محمود ومحمد شحرور ونصر حامد أبو زيد ومحمد عمارة، وأتصور أن تأثيراتهم انحصرت بين شريحة محدودة من المجتمع، أمّا كتاب الأزهر إذا صدر فسوف يُحدث دويًا ويتمتع بمصداقية عالية بين المسلمين فى العالم.

والأزهر به كليات إسلامية ودراسات متخصصة فى الحديث والسيرة وتفسير القرآن، وفكرة المنهج الجديد سوف تحث أساتذته وطلابه على التفكير خارج الصندوق التقليدى، وهم يقرأون كتب التراث ويعيدون التفكير فيها، وسيكون هذا مقبولاً من جامعة لها روح محبة لتراث المسلمين ولا تطاردها اتهامات بالعداء كالآخرين الذين ينادون بالتجديد من خارجها، والأهم أن تجدد الفكر من داخل مؤسّسة متهمة أحيانًا بالجمود الفكرى.

ولماذا الآن؟

مثلى مثل ملايين المصريين ينصب ولعى على وطنى، وهو فى أول الطريق لصناعة جمهورية جديدة، والثقافة آلة رفع عملاقة، والثقافة الدينية سواء كانت صحيحة أو غير صحيحة جزء من چينات المصريين، وحان الوقت أن نعيد تشكيلها؛ ليعرف المسلمون منهم دينهم بطريقة تستنهض الهمم وتبنى روح الفريق وتعمل بجدّيّة فائقة ولا تغرق فى مَظاهر التدين دون جوهره.

نريدها چينات ناهضة غير متواكلة، چينات لا تنشغل بإرضاع الكبير والثعبان الأقرع ومضاجعة الزوجة الميتة ودخول الحمّام بالرّجْل اليمين، والخلوة الشرعية مع سائق تاكسى، وكثرة الإنجاب من طيب العمل، وشرعية الجلباب القصير.. إلخ؛ لأن هذه الانشغالات تشى بأننا خارج العصر.

نعم هى مهمة ثقيلة، سيستميت التقليديون لوأدها مبكرًا حربًا وتشهيرًا، فهل يفعلها الأزهر ويشد ظهْر الوطن معنا لنعود إلى رَكْب الحضارة الحديثة؟.
"عن روزاليوسف"

التعليقات