للحرب فى أوكرانيا أوجه عدة

تحدث وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق هنرى كيسنجر عن الحرب الأوكرانية، فدعا الغرب لتقديم تنازلات لروسيا فى الأراضى الأوكرانية، والتسليم لها بإقليم الدونباس فى شرق أوكرانيا، وشبه جزيرة القرم فى جنوبها، مقابل ضمان استقلال ما تبقى من أوكرانيا دولة محايدة، يضمن الفرقاء أمنها ورفاهيتها.

يريدنا هنرى كيسنجر أن نطبق فى القرن الحادى والعشرين ما طبقته الدول والقوى المتصارعة مرارا حتى النصف الأول من القرن العشرين، عندما حاربت الدول من أجل السيطرة على الأرض بمن عليها، وعندما صنعت السلام عبر إعادة اقتسام الأرض ورسم حدود جديدة فى كل مرة تغيرت فيها موازين القوى. نادرا ما كانت هذه التسويات عادلة، لكن هل يوجد عدل فى حدود الدول ومساحة أراضيها، وما هو العدل فى أن توجد دول باتساع الولايات المتحدة أو روسيا، بينما لا تزيد دول أخرى عن مساحة جزيرة صغيرة.حدود الدول لا يتم رسمها وفقا لمبادئ العدل، لكنها محصلة لعوامل الجغرافيا والتاريخ المعقدة، والتى يمكن اختصارها فى عامل واحد فقط هو القوة. العدل هو المطلب الأهم فى العلاقات داخل الدول، حيث العدل أساس الملك. أما بين الدول فالسلام والأمن هما المطلب الأكثر أهمية.

فى الحرب الروسية-الأوكرانية محاولة من جانب روسيا لإعادة رسم الحدود وفقا لحقائق الجغرافيا والتاريخ وميزان القوة. وفيها أيضا محاولة من جانب الزعامة الروسية لإعادة بعث الإمبراطورية الروسية الشاسعة. والمطلوب هو الاعتراف بحقائق التاريخ والجغرافيا وميزان القوة، فى مقابل تخلى روسيا عن حلم إحياء الإمبراطورية، أما بغير ذلك فإن الحرب قد تتواصل لسنوات طويلة مدمرة.

فى الحرب الروسية فى أوكرانيا توسع إمبراطورى، وفيها أيضا تصحيح للطريقة الشاذة التى انهارت بها الإمبراطورية السوفيتية - الروسية، والمطلوب هو فصل المسارين عن بعضهما من أجل سلام العالم.على عكس ما حدث طوال التاريخ عندما يحين موعد انهيار الإمبراطوريات، فقد انهارت الإمبراطورية السوفيتية سلميا دون حرب ترسم الحدود وتوزع الممتلكات. الحرب الجارية فى أوكرانيا هى حرب تفكك الإمبراطورية السوفيتية التى تحدث متأخرة عن موعدها أكثر من عشرين عاما، آخذة شكل حروب صغيرة متفرقة لكل منها عنوانها الخاص، فمرة هى حرب الشيشان، ومرة الحرب فى جورجيا، ومرة ثالثة هى عملية ضم شبه جزيرة القرم، وها نحن الآن نشهد حرب دونباس وبحر آزوف.

لقد انتهى عصر الإمبراطوريات متعددة القوميات والأعراق منذ الحرب العالمية الأولى، وفيها انهارت الإمبراطوريات العثمانية والنمساوية، وخرجت من أحشاء كل منهما العشرات من الدول الجديدة المستقلة. وحدها الإمبراطورية الروسية واصلت البقاء طوال السبعين عاما التالية، بسبب الدماء الجديدة التى ضختها الثورة السوفيتية فى شرايين الإمبراطورية الروسية. تجديد الإمبراطورية الروسية على يد الحكم الشيوعى مكن الإمبراطورية الروسية من البقاء فيما وراء العمر الافتراضى للإمبراطوريات. بحلول الثمانينيات كانت دماء الإمبراطورية السوفيتية - الروسية قد جفت فى الشرايين، وكان على الإمبراطورية الروسية أن تواجه المصير الذى واجهته من قبل كل الإمبراطوريات، فتفككت كما تفككت مثيلاتها من قبل. تفكك الإمبراطورية الروسية لم يكن فقط متأخرا، وإنما كان أيضا سلميا، فعندما حان وقت الانهيار أعلنت الأقاليم المختلفة المكونة للإمبراطورية السوفيتية/الروسية استقلالها دون أن تقابل بأى مقاومة من جانب الإمبراطورية التى كانت قد فقدت أى قدرة على الفعل دفاعا عن بقائها. التفكك السلمى للإمبراطورية الروسية هو الاستثناء الحقيقى، فليس هكذا تتفكك الإمبراطوريات، إذ لا بد من حرب يشنها دعاة الانفصال، وحرب تشنها الإمبراطورية العجوز دفاعا عن بقائها، وهو ما لم يحدث عندما تفككت الإمبراطورية الروسية قبل ثلاثين عاما، ولكنه يحدث أمام أعيننا الآن.

السقوط السلمى للإمبراطورية الروسية أدهش العالم وأثار إعجابه، غير أن هذا السقوط السلمى نفسه خلف من المشكلات والقضايا المعلقة الكثير، وهى القضايا التى مازال على روسيا وتوابعها السابقة أن تتعامل معها. لقد تحولت الحدود الإدارية للأقاليم السوفيتية بين عشية وضحاها إلى حدود سياسية، ووجد الكثير من الناس أنفسهم يحملون جنسيات دول لم يختاروها ولا تربطهم بها صلة. الفارق بين الحدود الإدارية والسياسية كبير، وفرق كبير بين أن تعيش بين غرباء تحت مظلة يحملها ويضمنها بنو جلدتك، وبين أن تجد نفسك بين الغرباء تحت رحمة تقلبات أهوائهم، خاصة إذا نظر هؤلاء الغرباء إلى البلد الذى يحكمه مواطنوك بالجنسية والدين والعرق باعتباره عدوهم الأخطر.

عندما تنهار الإمبراطوريات لا تنشأ الدول الجديدة عبر التحويل البسيط للحدود الإدارية إلى حدود سياسية للدول الجديدة، وإنما تجرى عملية صراعية صعبة لرسم الحدود وفقا لميزان القوى المادى والبشرى، ولخلق درجة أعلى من التطابق بين ولاءات السكان وهوياتهم من ناحية، وهوية السلطات السياسية الناشئة من ناحية أخرى. عندما غاب التطابق بين الحدود الجديدة وهويات السكان جرت عمليات تبادل سكانى، كانت أحيانا واسعة النطاق لدرجة صادمة.

ففى نهاية الصراع بين تركيا واليونان والذى كان فى نفس الوقت آخر حروب تفكك الإمبراطورية العثمانية، انتقل مليونان من السكان عبر حدود البلدين؛ ونتيجة للصراع الذى نشب مع انهيار الإمبراطورية البريطانية فى شبه القارة الهندية، انتقل اثنا عشر ونصف المليون من السكان عبر حدود دولتى الهند وباكستان اللتين تكونتا مع انهيار الحكم الإمبراطورى، كل ذلك بهدف إيجاد واقع جديد تحقق فيه الدول الخارجة من رحم الإمبراطورية درجة أكبر من الانسجام والوحدة الداخلية، وهذا هو أحد أوجه الحرب الدائرة الآن فى أوكرانيا، ومن الأفضل للغرب وروسيا إبقاؤها فى هذه الحدود.
عن بوابة الأهرام 

التعليقات