أسئلة الأزمة الأوكرانية الجديدة القديمة

يقف العالم على أطراف أصابعه وهو يشاهد آلة الحرب الروسية تجتاح أوكرانيا. سيكون لحدث بهذا الحجم آثار عميقة على النظام الدولى كله، وسوف تشعر بآثاره ونتائجه كل دولة من دول العالم. هذا هو ما نبدو متيقنين منه، لكن ماذا يعنى ذلك على وجه التحديد، وكيف سيبدو العالم فى نهاية هذه الأزمة، وما هو شكل هذه النهاية ومتى ستأتى، وما هو حجم الخسائر والتضحيات التى سيتحملها العالم لاجتياز هذه الأزمة. الكثير من الأسئلة والقليل من الإجابات. يناقش هذا المقال بعض الأسئلة التى سيكون علينا البحث عن إجابات لها فى الأسابيع والشهور القادمة. خطوة روسيا التالية وحدود العمل العسكرى الروسى هو السؤال الأكثر أهمية الآن. وحده الرئيس فلاديمير بوتين يعرف ما يدور داخل رأسه. نعرف أن الرئيس الروسى يمقت تفكك الاتحاد السوفيتى، وقد وصفه علنا بأنه أكبر كارثة جيوإستراتيجية فى القرن. روسيا الإمبراطورية، وليس الاتحاد السوفيتى الشيوعى، هى الحقيقة الوطنية التى يأسف عليها الرئيس الروسى، والتى يعمل على استعادتها. والسؤال المحير هو إلى أى مدى يمكن للرئيس بوتين أن يذهب لاستعادة الإمبراطورية الكبرى التى استغرق الأباطرة خمسة قرون فى بنائها؟ هل تكتفى روسيا بأوكرانيا، أم أن الرئيس بوتين يخطط للتدخل العسكرى فى دول أخرى من دول الاتحاد السوفيتى السابق؟ هل يشمل ذلك دول البلطيق التى أصبحت أعضاء فى حلف الأطلنطى؟ ما هو شكل العلاقة التى يسعى بوتين لإقامتها مع دول يسعى لإخضاعها، هل يضمها لروسيا الاتحادية، أم يكتفى بتنصيب حكومات تابعة فى عواصمها؟ وهل لشكل هذه العلاقة أهمية فى تشكيل رد الفعل الغربى تجاه روسيا؟

روسيا لا تعيش فى عالم صنعته بمفردها، والنتيجة النهائية للغزو الروسى لأوكرانيا ستتحدد وفقا لرد فعل الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين تجاه الخطوة الروسية. البعض فى أوروبا لا يستبعد خيار التضحية بأوكرانيا من أجل الحفاظ على السلم فى اوروبا. المشكلة هو أنه لا أحد يعرف ما إذا كان ذلك سيقنع روسيا بالوقوف عند هذا الحد، أم أنه سيشجعها على انتزاع المزيد من الغرب الضعيف.

يتجادل الغربيون حول خبرة ميونيخ 1938، عندما سلمت بريطانيا لهتلر بمطالبه فى إقليم السوديت التابع لتشيكوسلوفكيا من أجل تجنب الحرب، فانتهى الأمر بهتلر وقد احتل أوروبا من الأطلنطى حتى حدود روسيا، وانتهى الأمر ببريطانيا وهى تحارب ضد ألمانيا بمفردها، ولولا تدخل الولايات المتحدة إلى جانب بريطانيا لتغيرت نتيجة الحرب الثانية تماما. يفسر الغربيون ميونيخ 1938 بطرق مختلفة، ويستنتجون منها سياسات متباينة، فالغرب غير موحد رغم حلف الأطلنطى والاتحاد الأوروبى. لا أحد يتوقع حربا مثل الحرب العالمية الثانية فى أوروبا، فلم يعد هذا ممكنا منذ اختراع الأسلحة النووية، لكن ماذا عن الحرب الاقتصادية، وهل يستطيع الغرب معاقبة روسيا تجاريا وماليا وتكنولوجيا لإجبارها على الانصياع؟ مشكلة أوروبا هى أن دولا رئيسية فيه أصبحت شديدة الاعتماد على روسيا لتوفير الطاقة اللازمة لإنارة المدن وتدفئتها وتشغيل الاقتصاد، وأن كل ضغط اقتصادى يمارسه الغرب على روسيا يرتد بنفس القدر تقريبا على أصحابه، فما هو حجم التضحيات التى سوف يكون الأوروبيون مستعدين لتحملها؟

فتح الغزو الروسى لأوكرانيا سؤال الأمن الأوروبى مجددا. منذ انتهاء الحرب الباردة والأوروبيون يشعرون بدرجة غير مسبوقة من الأمن، فخفضوا إنفاقهم الدفاعى إلى حدود دنيا، وركزوا على إزالة العوائق أمام التجارة والاستثمار والابتكار، وتصاعدت فى القارة تيارات تنادى بنزع السلاح من جانب واحد. فتح شعور الأوروبيين بالأمن الباب لمناقشة قضايا جوهرية من نوع مستقبل حلف الأطلنطى، والعلاقة مع الولايات المتحدة، وما إذا كان على الأوروبيون بناء هوية وكيان أمنى مستقل خاص بهم. ستواصل أوروبا مناقشة هذه القضايا، وسيواصل الأوروبيون الاختلاف حولها، لكنهم الآن يفعلون ذلك على صوت انفجارات القنابل وجنازير الدبابات عبر الحدود فى أوكرانيا.

المشهد الدامى فى أوكرانيا، على أهميته، هو حدث طارئ على المسار الإستراتيجى الأكبر الذى يسير العالم وفقا له منذ أكثر من عقدين من الزمان. صعود الصين كان ومازال هو التحدى الأكبر والأكثر جدية للنظام الدولى، فالصين قوة اقتصادية وسكانية وتكنولوجية وعسكرية، وليست مجرد مورد للمواد الخام والسلاح. تواصل الصين التقدم نحو قمة النظام الدولى، وهى تتطلع إلى مستقبل تراه باهرا ينتظرها، وليس إلى مجرد استعادة ماض مجيد. مازالت كل الأسئلة الحرجة ذات الصلة بهذا الأمر مطروحة، خاصة طبيعة النظام الدولى الذى سينتج عن صعود الصين، وما إذا كان صعود الصين سيكون عنيفا أم سلميا. وهل ستقدم الصين نموذجا فى التنمية والحكم يجذب المريدين والأتباع. لقد أضيفت إلى هذه الأسئلة الآن علامات استفهام أخرى، أهمها ما إذا كان الغزو الروسى لأوكرانيا سيتسبب فى تسريع أم إبطاء عملية صعود الصين، وما إذا كانت الصين ستنأى بنفسها عن مغامرة شريكها الروسى العسكرية، أم ستجد فيها فرصة لتعظيم مكانتها ونفوذها؟

هذه بعض الأسئلة الرئيسية التى وضعها الغزو الروسى لأوكرانيا على مائدة صناع القرار فى عواصم العالم الكبرى. إنها أسئلة الحرب والسلام، وهى الأسئلة التى ظن الغرب المتقدم لبعض الوقت أنها أصبحت من شئون البرابرة فى مناطق الصراع فى الشرق الأوسط وإفريقيا وما شابه. إلى جانب هذه الأسئلة الجوهرية سيكون على الأكاديميين إعادة طرح أسئلة نظرية قديمة سقطت من قائمة الاهتمامات منذ ثلاثة عقود. أسئلة الطبيعة الإنسانية ودوافع السلوك السياسى وطبيعة الاجتماع البشرى، وما إذا كان الإنسان السياسى يتصرف بعقلانية أو وفقا لغرائز وأهواء، وما إذا كان يتطلع لامتلاك القوة أم الرفاهية الاقتصادية، وهل التعاون أم الصراع هو القاعدة فى العلاقات السياسية، وما إذا كان من الممكن بناء العلاقات السياسية على أساس الثقة فى نوايا الآخرين. أما المغزى السياسى لكل هذه الأسئلة فهو نفسه سؤال السياسة القديم جدا: هل العالم ساحة للصراع أم مجال للخير المشترك؟

التعليقات