ڤيكتوريا

هذا هو المقال الرابع عشر في مشروع الكتاب الذي أشتغل عليه عن موضوع الشخصية القبطية في الأدب المصري، والرواية التي أعرض لها هذا الأسبوع هي رواية "ڤيكتوريا" للكاتبة كارولين كامل، وتلك هي المرة الأولى التي تتناول فيها سلسلة مقالاتي عملًا إبداعيًا لامرأة. الرواية صدرت عام ٢٠٢٢ عن دار الكرمة، وهي تُعّد العمل الروائي الأول لكارولين كامل، وإن كانت قد كتبَت بعض القصص القصيرة في جريدة الحياة اللندنية قبل توقفّها، ولولا أنني سمعت من الكاتبة نفسها أن تلك هي تجربتها الروائية الأولى لظننت أنها روائية محترفة، فهي قادرة على الاحتفاظ بانتباه القارئ من البداية حتى النهاية. تمسك بخيوط شخصياتها الروائية بإحكام وتجعلنا نتمثَلها ونراها. لغتها العربية سليمة وجُملها قصيرة. باختصار لو أردت أن أصف الرواية لقلت إنها قبطية جدًا لأنها تعمل "زووم" على أدق التفاصيل التي تخّص وضع أقباط مصر خلال الفترة الممتدة من الثمانينيات وحتى عشية اندلاع ثورة يناير٢٠١١، وتفتح نهاية روايتها والبطلة تستعد للسفر مع خطيبها يوسف للولايات المتحدة. ثم أن الرواية صريحة جدًا ليس فقط في انتقادها بعض الممارسات التمييزية ضد الأقباط، لكن كذلك في انتقادها أفكار بعض آباء الكنيسة وبعض سلوكيات الراهبات، تريد أن تقول إن المجتمع الكنسي ليس مجتمعًا ملائكيًا، وهذا المنحى الانتقادي موجود لدى العديد من الأدباء الشبان الذين لمعوا في العشر سنوات الأخيرة. وهي- أي الرواية- واقعية جدًا، وعن نفسي فقد وجدتني أكثر من مرة حاضرة بين بعض سطور الرواية، فعندما كانت أمها تحذرّها وهي في الرابعة عشرة من عمرها من السقوط من الشرفة استعدتُ نفس الجملة التي أكررها على حفيداتي رغم أنهن كبرن وصرن قادرات على التمييز بين ما ينفع وما يضر، وعندما كانت تعرّج على محل الچوكي للآيس كريم قرب كوبري عباس رأيتُ نفسي في ذات المكان لأنني كثيرًا ما مررتُ بالچوكي في طفولتي، وكان يدير المحل أحد أبناء العائلة الأباظية ويحتفظ تحت زجاج المكتب بصورته مع رشدي أباظة، وعندما تناوَلت الكاتبة تطوّر علاقة ڤيكتوريا بجسدها وبالدين وبالعالم كنتُ معها وأظن أن فتيات كثيرات كنّ معها أيضًا.
• • •
عاصرَت ڤيكتوريا تأزّم علاقة المسلمين بالأقباط كإحدى ثمار سياسة السادات في محاباة التيارات الإسلامية حتى الفصائل العنيفة منها، دون أن يعرف أنه بما فعل إنما كان يرقص رقصة موته. وأسرة ڤيكتوريا من الأساس هي أسرة متزمتة ومتشددة في تربية ابنتها ومنغلقة على نفسها، وبالتالي فعندما نما نفوذ الإسلاميين وتكررت حوادث إيذاء المسيحيات لأنهن غير محجبات وشاعت ظاهرة اختطاف المسيحيات وأسلمتهن، وجدت الأسرة المبرر للمزيد من الانغلاق والتقوقع داخل مساحتها الآمنة. اختار الأب مفدّى السكن في عمارة مملوكة لأقباط رغم أنها ليست في منطقة مناسبة كما أن بعض سكانها ليسوا فوق مستوى الشبهات، وعندما انتقلَت ابنته ڤيكتوريا من المحلة إلى القاهرة كي تدرس في كلية الفنون الجميلة اختار لها أبوها السكن في شبرا في بيت يتبع الكنيسة الأرثوذوكسية وتشرف عليه راهبة، فإذا ما طُردت ڤيكتوريا من الدار بعد أن ضاقت بالأوامر الصارمة، لم يكن أمام الأب إلا قبول انتقالها لعمارة سكنية عادية في حي المنيل لكن لا يسكنها إلا أقباط. هذه المعلومة بدت لي غريبة، فحي المنيل هو مقصد مفضّل لسكن الوافدين العرب وهذه ضمانة أكيدة للانفتاح وقبول التعدد في اللهجات والأصول والدين. عمومًا هذا ما حكته الرواية التي نقرأ فيها أيضًا أنه بالتوازي مع الانفصال في السكن، اتجهت أسرة ڤيكتوريا لتقليص علاقاتها مع المسلمين في المساحات المشتركة، مع أن ذلك لم يكن ممكناً دائمًا. وعلى سبيل المثال فإنه بسبب مرور الأسرة بضائقة مالية اضطر الأب لنقل ابنته من المدرسة الخاصة لمدرسة تابعة للجمعية الشرعية، وكأن ظروف الحياة بذلك شاءت أن تعانده وتلقي به في أحد معاقل السلفيين وتفرض عليه مخالطتهم من حيث أراد هو الاعتزال. لكن قرار الاختلاط له طرفان إن لم يتوافقا عليه فلن يحدث، وهكذا فوجئت ڤيكتوريا بصديقتها المسلمة دعاء تبتعد عنها شيئًا فشيئًا خاصة بعد أن ارتدت الحجاب. وما حدث مع ڤيكتوريا في المدرسة حدث قبله مع أمها ماري في محيط العمل، حيث بدأ الأمر بالتباعد عن ماري والاعتذار عن لقائها بحجة حضور درس في الجامع وانتهى الأمر بالقطيعة التامة. في ظل هذه الحياة داخل جيتوهات منفصلة مضى المسيحيون والمسلمون يكوّنون بينهم وبين أنفسهم صورًا ذهنية لبعضهم البعض لا تمت للواقع بصلة. تصوّرت ڤيكتوريا أن السلفيين أو السنيّة، كما يقال لهم، هم وحدهم الذين يطلقون لحاهم، ولم تكتشف أنها مخطئة إلا عندما دخلت الجامعة ووجدت بين زملائها ملتحين غير سنيين، بل بلغت سذاجتها حدًا تصوّرت معه أن كل المسلمين اسمهم محمد، فلما أحبّت صاحبتها هبة شخصًا مسلمًا اسمه حسام فهمَت ڤيكتوريا أن المسلمين لهم أسماء شتّى، هذا عدا عن افتراض النهم لدى المسلمين حتى نجد الأب يردع ابنته عن عدم الاستعجال في الأكل قائلًا "بلاش استعجال أولاد المسلمين ده". أما الصور الذهنية للمسلمين عن الأقباط فحدّث ولا حرج، وأبرز معالم هذه الصورة أن الاقباط لا يتطهرون، وبالتالي فإنهم لا يختتنون، وهكذا عندما عايرت المسلمات ڤيكتوريا بأنها لم تختتن لأنها نصرانية لا تحافظ على نظافتها وسألتها زميلتها "ڤيكتوريا هو انتو عندكو طهارة وكده؟"، جرت ڤيكتوريا لتسأل أمها لماذا لم أختتن؟ وتلقّت من أمها أول صفعة على وجهها. وموضوع الختان كعنصر من عناصر التمايز بين بعض المسلمين والمسيحيين تثيره هذه الرواية لأول مرة.
• • •
يجد قارئ "ڤيكتوريا" أنه على مدار ثلاثين عامًا استغرقها حكم حسني مبارك كان هناك حدثان مفصليان من حيث التأثير سلبًا على علاقة المسلمين بالأقباط، الحادث الأول هو الإعدام الجماعي للخنازير بدعوى أنها سبب في انتشار أنفلونزا الخنازير، والحادث الثاني هو تفجير كنيسة القدّيسين بالإسكندرية. يحفظ الأب مفدّى تاريخ إعدام الخنازير عن ظهر قلب: ٢ مايو ٢٠٠٩ ليس فقط بسبب الطريقة الوحشية التي تمت بها عملية إعدام الخنازير، ولا لأن التخلّص من الخنازير قطع عيش آلاف الأسر المسيحية، لكن الأهم من كل ذلك هو الخوف من أن ما حدث ربما كان هو أول خطوة في طريق طويلة تنتهي "بالتخلّص من كل حاجة ليها علاقة بالمسيحيين.. النهارده الخنازير، وبكره صوت أجراس الكنائس وبعده الكنائس نفسها…"، ومعنى ذلك أن واقعة الخنازير كانت لها دلالة نفسية/رمزية بالإضافة إلى دلالتها المادية الموثّرة. يقول أبو ڤيكتوريا "مبارك.. بيدّي الإخوان المسلمين العضمة اللي كان نفسهم فيها من زمان". ثم أن الواقعة عمّقت حنق الأب على البابا شنودة لأنه لم يستنكرها، بل قال البابا "إن لحمة الخنزير بتجيب الدودة الشريطية وإن الأجانب هم اللي بياكلوها في مصر"، والنائبة التي رشحها البابا للتعيين في البرلمان قالت إنها "تشجّع إعدام الخنازير". هذا الهجوم من مفدّى على البابا شنودة يبدو مفهومًا بالنظر إلى ما اعتبره تساهلًا من البابا في التمسك بحقوق المسيحيين، لكن الذي لم أفهمه هو أنه من بين أسباب سخط الأب على البابا شنودة تكلمه نفس اللغة التي يتكلمها الشيخ متولّي الشعراوي، وهنا يقول الأب "شنودة ومتولّي الشعراوي وجهين لعملة واحدة.... سنكون ضحايا هذا الرجل وضحايا أي كلمة تخرج من فمه". وفي الواقع أنه إذا كان مفدّى أبو ڤيكتوريا يعتبر الشعراوي شيخًا متشددًا فمن المنطقي أن يدافع عن تشدّد البابا في مواجهته. فإذا انتقلنا لواقعة تفجير كنيسة القديسين وجدنا كما جاء على لسان أكثر من شخص في الرواية أنها كانت نقطة تحوّل مهمة أساسية، فمن بعدها قام مسيحيون كُثر بتصفية أعمالهم والتقدم بطلبات لجوء للخارج، ومن هؤلاء يوسف خطيب ڤيكتوريا الذي حسم موقفه من الهجرة بعد التفجير فقرر السفر لأمريكا على أن تلحق به ڤيكتوريا بعد التخرّج من الجامعة.
• • •
وكأننا بذلك بعد أن ننتهي من قراءة رواية "ڤيكتوريا" نستخلص أنه قبل يناير ٢٠١١ كانت الخيارات المتاحة أمام أقباط مصر محدودة إلى حد كبير، فهم إما أن يشتروا رضاء الكنيسة والسلطة معًا ويشاركوا من خلال ذلك في المجال العام سواء كان البرلمان أو الحكومة ويقولوا ما لا يغضب أحدًا، وتلك نسبة محدودة من الأقباط بحكم محدودية المشاركة السياسية القبطية في تلك الفترة. وإما أنهم ينكفئوا على أنفسهم ويحتفظوا لأنفسهم بانتقاداتهم لكتب التاريخ ونظام الترقيات وإجازات الأعياد والتنمّر عليهم وعلى بناتهم.. إلخ. وإما أن يحزموا حقائبهم ويهاجروا للخارج ليبدأوا حياة جديدة. لكن تاريخ ٢٥ يناير ٢٠١١ أتى ليطرح عليهم خيارًا رابعًا وهو خيار المشاركة السياسية الواسعة من أجل تغيير النظام على أمل أنه من داخل النظام الجديد يتغيّر وضعهم هم أنفسهم. ومع أن أحداث الرواية توقفت فعليًا قبل الثورة إلا أن الكاتبة ربما طرحت احتمالات التغيير في رأيي من خلال شخصية البطلة ڤيكتوريا التي تحوّلت ١٨٠ درجة من كونها فتاة انطوائية أو "معقَدة" كما قالت عنها صديقتها، مرعوبة من السير في الطريق العام، وأرقام تليفوناتها مع المسيحيين فقط، وتداوم على الصلاة والمناولة والاعتراف للأب يوليوس، إلى فتاة جديدة تمامًا تثرثر وتتجمّل وتُحب، لا تهاب الشوارع الضيقة وتجلس على مقاهي وسط البلد، وتغيّر علاقتها بالكنيسة وتتخلّى تمامًا عن فكرة الرهبنة التي كانت قد وعدت بها الرب ذات يوم. ولعل الكاتبة ترمز بهذه النقلة النوعية في حياة فتاة قبطية إلى النقلة النوعية التي كان من المقدّر أن تعرفها حياة الأقباط بعد الثورة، ولعل هبة صديقة ڤيكتوريا التي أحدثت كل هذا التغيير في شخصيتها تكون هي ذات نفسها الثورة التي غيّرت وضع الأقباط. عمومًا فإن لكل عمل أدبي قراءات مختلفة.
• • •
مع ڤيكتوريا تدخل الكاتبة كارولين كامل عالم الأدب من أوسع أبوابه، ولقد فَتَحَت شهيتنا بروايتها لقراءة جزء ثانٍ يتناول مرحلة ما بعد ٢٥ يناير ٢٠١١ لنعرف ما إذا كانت البطلة قد هاجرت فعلًا لأمريكا مع خطيبها يوسف ذلك الشاب المتسلط المتعصّب المدلل، أم أنها قاوَمَت مشاعرها وثبتت على أرض مصر وذابت في الحشود التي خرجت في هذا التاريخ طلبًا للتغيير.

التعليقات