وفاة ناقد مهم

غاب عنا الناقد الكبير الدكتور صلاح فضل وكان آخر كراسيه مقعد رئيس مجمع الخالدين، ويفقد النقد بغيابه أستاذًا شامخًا ومعلمًا طيبًا ورؤوفًا بالأدب والأدباء، وصاحب مدرسة حقيقية في النقد. والكتابة عن د. فضل عسيرة، بقدر ما كانت كتابته ومتابعته للأفكار وللمبدعين يسيرة، أكثر من ذلك مضيئة ومشجعة، وغيابه لا يعني غياب النقد، وقد كان يستغرب طرح "أزمة النقد" من قبل البعض.
ربما تسامح د. فضل مع "فجوة" أحيانًا بين أجيال نقدية، وقاده التفكير والتقدير إلى الاتصال النشط والمتجدد بما يحدث في العالم، بينما لفت نظر الوسط الثقافي في منتصف الثمانينيات ببحثه المتميز عن نظرية البنائية في النقد الأدبي.

وقد رفض د. فضل مسميات "الوفاة" التي تلاحق المصطلح النقدي، كالبنيوية، وقال لي في أحد اللقاءات إن المصطلح النقدي مثله في ذلك مثل المصطلح العلمي خاصة إذا كان متصلا بالحقائق الإنسانية أكثر من اتصاله بالمجالات الطبيعية والتجريبية البحتة، وأنه أشد شبهًا بعمليات التطور الحيوي والفكري، ويمكن أن نقارنه لا بالملابس التي تتغير من وقت إلى آخر وإنما بالغذاء الذي يدخل في البنية العضوية للكيان ويصبح جزءًا منه، وإن تكرر في مراحل لاحقة لا يعد تقليدًا للمراحل السابقة.

وظل د. فضل على موقفه من مسميات وفاة البنيوية، وقد حضرت مناقشة ساخنة بينه وبين الناقد الكبير الراحل الدكتور جابر عصفور في ندوة في قصر السينما بالقاهرة حول كتاب الأخير "نظريات معاصرة"، حيث أكد أن مقولة وفاة البنيوية استخدمت لإدانة الحركة النقدية العربية واتخذت شريعة وشعارًا لعدد من النقاد الكسالى الذين رأوا في البنيوية نظرية عسيرة، فأصدروا شهادات وفاتها ليعفوا أنفسهم من الجهد. وانتقد د. فضل عبارة د. عصفور "فتنة البنيوية" فهي ليس فيها فتنة، كما انتقد تكراره عبارات مثل "التبعية" لأن كل تواصل مع الفكر الحديث لا يعد تبعية. وفي تلك المعركة ما بين الناقدين الكبيرين أصر د. عصفور على غروب شمس البنيوة وفقدانها الجاذبية والجمهور، وقد عاقبها التاريخ الذي لم تؤمن بتقدمه الصاعد، وفرض عليها أن تترك موقع الصدارة لنظرية الخطاب.

كما انتقد د. فضل صديقه د. جابر في الندوة، لأنه في كتاب "نظريات معاصرة" أعاد كتابة المقالات المنشورة، وتساءل عن حدود الصياغة الجديدة لمقال قديم. وقال د. فضل إنه كان يعتقد بأن ما كتب مرة لا يجب أن نقاربه مرة أخرى، فإعادة الصياغة تعني حرمان الكتابة الأصلية من هذا التجذر في شخصية الكاتب.

تلك إحدى معارك الناقد الراحل، وهو لم يكتب فقط عن البنيوية، التي تناولها في كتابه الثالث في سلسلة مؤلفاته التي بلغت 38 كتابًا، قبل "صدى الذاكرة" عام 2021 عن هيئة الكتاب، وإنما كتب عن الواقعية والثقافة الإسلامية وأساليب السرد ومناهج النقد المعاصر والأندلسيات.

وربما الكثير من الخلفيات في معارك الناقدين لها علاقة بالقرب من السلطة، التي كان د. جابر قريبًا منها ما ألحق به انتقادات مثقفين كثر، والتي كان د. فضل بعيدًا عنها، أو كما وصف الأمر في كتابه الأخير "صدى الذاكرة" بأنه شعر بخسارة معركة السلطة منذ بدء عقد التسعينيات. كان قد بلغ الخمسين من العمر، وتعرض لوشاية اضطرته إلى الاستقالة من عمادة المعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون، كما تم حرمانه مما يعتقد أنه يستحقه من عمادة كلية الآداب لـ "عدم مهارتي في النفاق وإصراري على اتخاذ موقف نقدي موضوعي"، وألمح د. فضل الذي عمل مستشارًا ثقافيًا في مدريد، إلى أن كثيرين ممن شغلوا مناصب "مستشار ثقافي" في غرب أوروبا عادوا وزراء.

ولم يستنكف د. فضل الانخراط في المعارك الثقافية، بعد عودته من جامعة البحرين التي أمضى بها وزوجته أربع سنوات كاملة، خصوصًا معركة تكفير د. نصر حامد أبو زيد، والصخب الذي أثارته محاولة اغتيال نجيب محفوظ. وأشير إلى وثيقة نشرها في صحيفة "أخبار الأدب" تحمل رؤيته لمشكلة إصلاح الخطاب الديني، وترفض دحرجة القضايا الفكرية من مستوى المؤسسات الجامعية والعلمية إلى "حرب المحاكم" ومن ثم تنحدر إلى "حرب المساجد والمنابر الثقافية" بما يؤذن بالخطر، لأنه ينتقل بها ـ هذه القضايا ـ من المجال الفكري والفقهي إلى إثارة العوام وتحكيمهم فيما يجهلون، وهي الوثيقة الملحقة في "وثائق الأزهر عن طبيعة الدولة المدنية ومنظومة الحريات وحقوق المرأة" التي أعدت عام 2017، بالاشتراك بين فضيلة الإمام الأكبر وجماعة المثقفين.

وأذكر هنا أن د. فضل أزهري الأساس فقد اجتاز المراحل التعليمية الأولى كلها الابتدائية والثانوية بالمعاهد الأزهرية، أما الليسانس فقد حصل عليه من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وكان ذلك عام 1962.

كان د. فضل متابعًا للحركة الإبداعية المصرية والعربية ونشر مقالات نقدية مهمة جمعها في كتب عامي 2015 و2016 خصوصًا كتابي "سرديات القرن الجديد" و"أحفاد محفوظ" (الدار المصرية اللبنانية). 

**عن بوابة الاهرام

التعليقات