أحاديث مع الأبنودي

أيام تفصلنا عن الذكرى الثامنة لرحيل الشاعر عبدالرحمن الأبنودي وينبثق في ذهني الآن صور ومواقف من بين غيوم الطابع المبهم لنتاج الذاكرة، لأنني لم أكتب يوميات، لكن الأحاديث المنشورة معه تمدني بعلامات حاضرة على طريق علاقتي بالشاعر الكبير. 
 
اقتربت من الأبنودي لأول مرة مع قصيدته "الليلة المحمدية" التي مزج فيها بين المولد النبوي الشريف والأحداث الحزينة في الخليج، كان العراق قد غزا الكويت، وبدت مصر، رغم العلاقات القوية والمتميزة مع الرئيس صدام حسين، أكثر دولة استفزازًا وغضبًا من عملية الغزو ومبرراتها، وفكت عرى الصداقة معه. 
 
وكنت خارج قاعة الاجتماعات الكبرى في جامعة الدول العربية يوم التاسع من أغسطس 1990، حيث تعقد قمة القاهرة الطارئة، بعد أسبوع من الغزو، وعرفنا كصحفيين وإعلاميين ماذا فعل الرئيس مبارك في الجلسة الصاخبة ليجمع الأصوات المطلوبة من القادة لإدانة العدوان. 
 
لم يكن الموقف المصري غريبا رغم التحالفات، وكان الرئيس عبدالناصر سباقا لذلك عندما أعلن الرئيس العراقي عبدالكريم قاسم أن الكويت جزء من العراق سيتم ضمها سلمًا أو حربًا، كان ذلك في اليوم التالي لاستقلال الكويت في بداية الستينيات، ورد عبدالناصر بأن الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا) ترفض منطق الضم، وأرسل تحذيرات للرئيس العراقي، وهو مع جهود أخرى عربية أبرزها موقف السعودية، أوقف مخطط الضم العراقي. 
 
كل هذا كان في ذاكرتي وأنا في الطريق إلى منزل الشاعر عبدالرحمن الأبنودي لإجراء حوار لمجلة "المصور" عن أوبريت "الليلة المحمدية" (الليلة السادسة) الذي قام بإخراجه جلال الشرقاوي، وشاهده ملايين المصريين على الهواء مباشرة في حفل الإذاعة المصرية من مسرح الجلاء بالقاهرة. 
 
وقد طالت الأبنودي من النميمة والاتهامات الخطيرة بسبب الأوبريت ما أذاه، ولكنه وقف بصلابة يدافع عن رأيه، وتحدث البعض ظلمًا عن أن الأبنودي تقاضى مليون دولار ثمنا للقصيدة، ربما قدم له أحدهم هدية، ولكن مليون دولار لم أجد مصدر ثقة واحد يؤكدها، وبعد الأوبريت جرى ارتباك هائل داخل حزب التجمع الذي ينتمي إليه الأبنودي، ما بين فصله من الحزب، وبين أقوال أخرى عن طلب رئيس الحزب خالد محي الدين من الأبنودي الاستقالة. 
 
كان الأبنودي قد كتب في العام السابق للغزو أوبريت "أفراح النصر"، ثم طلب من وزير الإعلام صفوت الشريف أن يكتب في احتفالات أكتوبر القادمة "محمدية". 
 
وعندما أسند مدير الإذاعة أمين بسيوني العمل له بدأ النقد الجارح لصاحب تحت الشجر يا وهيبة، وعدوية أن يكتب المحمدية. 
 
لكن الأبنودي الذي لم تغادر روحه صباه أبدًا، كان حريصًا في حواري معه في ذلك اليوم البعيد قبل أكثر من ثلاثين عاما، وبعد عرض الأوبريت مباشرة، أن يحكي لي عن نشأته في بيت متدين أزهري، ووالده الذي كان إمامًا ومأذونًا شرعيًا ومدرسًا للغة العربية، وعن مكتبة البيت. واستفاد الأبنودي في الأوبريت من "بردة" أبيه التي عارض فيها "بردة" البوصيري، وعند العرض التليفزيوني كتب على الشاشة: من شعر البردة: محمد الأبنودي..  
 
كان نموذج شاعر الربابة في وجدان الأبنودي حاضرًا، وهو عنده ذلك المبدع الشعبي الذي حقق الصلة بين الفكر والعقيدة بصورة عبقرية حققت له الإجماع والمبايعة العامة في كل ما يقول لدرجة التوحد بالجمهور. 
 
لذلك لم يكن غريبًا أن أكون جالسًا في بيت السحيمي لأسمع السيرة الهلالية من آخر منشديها في أشهر تالية من شهر رمضان المبارك، والأبنودي يقدمهم ويحتفي بهم ويشرح ما غمض على الجمهور من خباياها، ويظل يذكر اسمي وحضوري بين الفقرات، في تحية آسرة لي وأنا وسط الجمهور.. 
 
احتشد الأبنودي لكتابة "الليلة المحمدية" وفكرته الأساسية أن الكتابة للأمة في أمور الدين لا تتطلب المسلك والمظهر المضحك لمتديني تلك الأيام، وإنما تتطلب إيمانا حقيقيًا بين الإنسان وذاته، وبين هذه الذات وأسرار الوجود في غير افتعال ولا مظهرية. ورغم الضجة التي صاحبت عمله إلا أنه اعتبر نفسه محظوظًا، أن تداخلت أزمة غزو العراق للكويت في المقارنة بين الإسلام في مبدأ ظهوره وأوج قوته وبين ما وصل إليه حال الأمة الإسلامية. لكنه في الوقت نفسه تحدث معي عما وصفها بأقلام صادقة طيبة "أعطتني أكثر من حقي وهي تشيد بهذا العمل". 
 
دافع الأبنودي عن ملحن العمل د.جمال سلامة وقال لي إنه بات من المقرر المكرر التهجم عليه عند كل عمل ينجزه، إلا أن سلامة يعرف الطريق إلى قلبه جيدًا وبالتالي إلى قلب الأمة. وهو يضع علمه في خدمة مشاعره من دون تزيد أو مبالغة وإنما النغمة عنده خادم أمين للكلمة. كما كشف لي عن حماسة ممثلي ومطربي الأوبريت الكبار، كوردة الجزائرية ونجوم مصر ونجمة الكويت الأولى سعاد عبدالله، والمطرب الكويتي عبدالله الرويشد، وقد أبكتنا جملته: "بيتي وبيقول بيته" وعلقت بالذاكرة حتى الآن، لمن لا يعرف من الأجيال الحالية. واعتبر الأبنودي إعجاب الناس بالعمل لأنه يُقدم وكابوس الاجتياح العراقي مازال غباره عالقًا بسماء الأمة، والدماء مازالت ساخنة لينة لم تجف والجريمة واضحة للعيان. 
 
مقال / محمد الشاذلي
الأهرام
التعليقات