واجب الكاتب -فى عالم مثالى

المطلوب فى التغطيات الصحفية، وكذلك التحليلات، التوازن والموضوعية، أما مقالات الرأى، فتختلف بحسب كاتبها؛ حيث يتسع المجال للكاتب ليعبر عن أفكاره وتوجهاته وأيديولوجيته.
 
الكاتب العاقل المتزن لا ينجرف وراء فكرته فيضحى بأخلاقيات الكتابة ويسلك طرقاً ملتوية تضر بالمجتمع وتشعل الرأى العام من أجل تحقيق أهدافه مهما كانت سامية.
 
بمعنى آخر، رغم شيوع المبدأ المكيافيللى بأن «الغاية تبرر الوسيلة» فى شتى أرجاء العالم، ورغم أن الغاية قد تكون رائعة وسامية، فإن واجب الكاتب -فى عالم مثالى- ألا يخدع أو يراوغ قدر الإمكان.
 
ليس فى الإمكان فى العصر الرقمى، حيث سماوات مفتوحة ومنصات تحتوى على معلومات وأشباه معلومات، وأخبار فيها من الفبركة والتدليس ما يوازى وأحياناً يفوق الحقيقى والواقعى، وتحليلات وآراء يستحيل تقييمها والبحث فى نوايا كاتبها أو انتماءاته وأهدافه وأغراضه، أن يتم توجيه القارئ أو المشاهد أو «مستهلك» المادة الإعلامية إلى شاشة أو منصة دون غيرها.
 
لكن الممكن هو العمل على تثقيف المتلقى منذ صغره وتنشئته على كيفية البحث والاختيار وإصدار الأحكام بناء على مقاييس موضوعية وقدرة مكتسبة تمكنه من التفرقة بين المحتوى الخبيث والمحتوى الحميد.
 
والمقصود بالحميد هنا ليس منزوع النقد أو الخالى من المعارضة، لكنه المحتوى الذى لا يهدف إلى توجيه المتلقى وكأنه واقع تحت تنويم مغناطيسى مسلوب الإرادة.
 
إرادة المتلقى -وهو القارئ والمشاهد والمتابع- ليست حرة دائماً، حتى وإن اعتقد ذلك.
 
وفى أعتى الدول ديمقراطية وأكثرها تشبثاً بالحريات، ستجد قدراً لا يستهان به من التوجيه غير الصريح فى المحتوى الذى يتعرض له المواطن سواء فى الإعلام التقليدى أو الـ«سوشيال ميديا».
 
وفى مناسبة مرور 12 عاماً بالتمام والكمال على أحداث عام 2011 التى غيرت الكثير من الأوجه فى مصر، والتى كادت بعض آثارها أن تدخلنا جميعاً فى نفق لا نجاة منه حيث سطوة جماعة إرهابية ترتدى جلباب الدين وعباءته المطرزة بالترتر وتحظى -للأسف- بدعم من دول غربية وأخرى فى المنطقة، يجب أن نذكر أنفسنا بأن الطريق نحو إعادة البناء لا يخلو من النظر بعين الاعتبار والاهتمام لتكوين الشخصية المصرية.
 
الشخصية المصرية التى أصابها الكثير من الضرر نتاج عقود من تجريف الفكر وإنهاك الهوية تستحق قدراً وفيراً من الاهتمام، لا بإطعام الأفواه فقط، إطعام العقول لا يقل أهمية، وهذا النوع من الإطعام لا يمر بالمدرسة فقط، لكنه يمر بقنوات عديدة من التثقيف والتوعية.
 
ورغم أن الكلمات التالية تبدو وكأنها مأخوذة من موضوع تعبير أو كتاب أكل عليه الزمان وشرب، إلا أنها عين العقل. الثقافة والوعى وإعمال العقل النقدى حائط صد يقى من الهجمات، وحزام أمان يحمى من الصدمات، وصمام أمان كفيل بتوفير الوقاية والسلامة.
 
هذه المكونات بالغة الحيوية تحتاج الكثير من العمل والجهد، بالإضافة إلى الإرادة والإيمان، أقصد الإيمان بالهدف وليس فقط الإيمان بالله. هى مكونات تراكمية لا تحدث بين يوم وليلة، أو عبر ندوة ثقافية، أو فقرة فى برنامج، أو عبارة ترويجية أعلى كوبرى أو تمر على الشريط الخبرى.
 
ولا يستوى تذكر ما جرى فى مصر فى عام 2011 دون تذكر ما جرى فى 2013، عام الخلاص. ولولا بقايا من ثقافة ووعى وقدرة على إعمال العقل لدينا جميعاً لما نجونا.
 
لكن النجاة فى حد ذاتها ليست غاية المنى. غاية المنى والأمل هى استدامة النجاة، ونحن قادرون على تحقيق ذلك عبر إعادة بناء الثقافة والوعى والقدرة على إعمال العقل.مشهد الشباب والصغار والكبار فى معرض القاهرة الدولى للكتاب يخبرنا أن الأرضية جاهزة ومستعدة.
 
ما زلنا قادرين على إعادة بناء الوعى والفكر والثقافة، لكن فى الوقت نفسه، علينا أن نذكر أنفسنا أن استدامة هذا البناء لن تتحقق إلا بتمكين الجميع من القدرة على فهم ما وراء المكتوب، وليس القراءة فقط، وعلى تحليل ما وراء المحتوى، وليس التعرض له فقط، وتكوين رأى منزه عن العواطف الجياشة والأفكار سابقة التعليب العتيقة وليس هضمها دون مراجعة محتوياتها.
 
المحتوى، سواء فى وسائل الإعلام التقليدية المحلية والعربية والغربية وكذلك الـ«سوشيال ميديا»، سيظل موجوداً، هذا المحتوى فيه الغث والسمين، وفيه الخبر ونصف الخبر، وفيه المعلومة والتوجيه، وفيه الخبيث والحميد، وتدريب المتلقى على التعامل مع هذا المحتوى -الذى وُجِد ليبقى لحين إشعار آخر- يكون بتمكينه من أدوات التعامل.
 
تنشئة الصغار منذ سن المدرسة على كيفية التفكير، مع زرع وتجذير القيم الأخلاقية والقواعد السلوكية، مهمة أمن قومى، وتثقيف الكبار وتوعيتهم بكيفية التعامل مع المحتوى مهمة أمن قومى، وهذه المهام عمليات مستمرة ولا تتوقف بنهاية حملة أو انتهاء موسم.
 
 
مقال/ أمينة خيري
الوطن
التعليقات