ميزة أن تكون مواطناً عادياً!

هناك ميزات معينة يكتسبها الإنسان عندما يكون مشهورا أو نصف مشهور، أو حتى مجرد أن يكتب اسمه على أفيش فيلم أو في تتر مسلسل. 
 
من هذه الميزات أن أي خبر أو حدث يتعلق بك يمكن أن يكون حديث الناس فوراً، بل يمكن في أحيان أخرى أن يطغى على أي حدث كبير سواء كان حدثاً سياسياً مهماً أو حتى كارثة إنسانية مروعة مثل زلزال تركيا وسوريا!. 
 
يمكنك أن تكون ممثلاً نص نص أو ممثلة درجة ثانية حتى ينافس خبر خناقة مع زوجة أو انفصال عن زوج أهوال زلزال تركيا وسوريا، ومآسي أهالي آلاف الضحايا المدفونين تحت الأنقاض، والجهود الدولية اليائسة للإنقاذ. 
 
وأن تكون ممثلاً أو ممثلة تمتلك براعة ذرف الدموع عند عرض مشكلتك، مؤكد أنك سوف تضمن اهتمام «السوشيال ميديا»، وأن تتحول مشكلتك إلى قضية رأي عام، حتى لو كانت مشكلة شخصية ومجالها الطبيعي مركز البوليس أو ساحة القضاء. 
 
قصص خناقات البيوت، والطلاق، والصلح والخلافات على الفلوس بتفاصيلها وتوابلها، تكون عادة قصصاً مغرية للنميمة في الجلسات الخاصة، وفي العادة فأن كل القصص متشابهة، إلا في بعض تفاصيل الضرب وألفاظ السباب، لكن الحكاية في كل مرة تقفز لتحتل التريند والعناوين وتأخذ مساحة معتبرة من وقت الناس، تشغلهم  وتحول أنظارهم عن أحداث وقضايا مهمة تمس حياتهم. 
 
هذه الحالة الغريبة تستحق التأمل والتساؤل: لماذا تحتل التفاهة الصدارة؟، بالذات في أوقات المحن والأزمات التي تعصف بالأمم وتهدد حياة الناس. 
 
إن تسويق التفاهة فن قديم يتخذ أشكالا عديدة، ويتجدد بتغير الزمن والأحوال ووسائل الاتصال، والمصريون اعتادوا دائماً استقبال بضاعة التفاهة بالامتعاض والسخرية تارة، واعتبارها مادة رخيصة للنميمة الاجتماعية تارة أخرى، وفي كل الأحوال يتعاملون معها بذكاء فطري يفرز بين الحقيقة والادعاء، خاصة في قصص أنصاف المشاهير أو هؤلاء الباحثين عن تريند يضعهم في دائرة الاهتمام، ليدر عليهم بضعة "لايكات"!
 
المحزن أن الأضرار الجانبية لهذه الحالة من شأنها أن تسهم بقصد أو دون قصد في تغييب الناس، وإغراقهم في حالة من الإحباط واللامبالاة، في حين أن العالم مذعور من حولنا، ومشغول بأخطار حقيقية تهدد الكوكب.. نذر الحرب النووية، وتداعيات الحرب في أوروبا، والمواجهة بين الصين وأمريكا، وأزمات الغذاء والمجاعات في أفريقيا وحروب الطاقة والمياه والتكنولوجيا. خريطة المنطقة والعالم تتغير، إيران والخليج، التحالفات الجديدة والصفقات الاسرائيلية بالإقليم، والتطور العلمي الهائل في الطب والاتصالات والذكاء الاصطناعي، وفي مناهج وطرق التعليم والبحث العلمي والزراعة. كل هذا إلى جانب موجات التغير الاجتماعي والسياسي وطموح القوى الجديدة الصاعدة في المنطقة. 
 
بالتأكيد هذه الأحداث الحافلة يوميا بعشرات الأخبار والتطورات توفر مادة مهمة للمحللين وصناع السياسات الوطنية، وتضع أمامهم خريطة كاملة لما يهم الناس،
ولما فيه مصالحهم ومستقبلهم،
ولكن لأن لوبي التفاهة يأبى عبر وسائله الخبيثة إلا أن يشغل جمهوره المفضل بـ«تريندات» الطلاق والزواج وقصص عداوات وخناقات المشاهير وأنصافهم، الأمر الذي قد يغيب الرؤية ويحرف البوصلة عن اتجاهها الصحيح، ويفسح المجال لمن يريد العبث بعقول الناس أن يعبث كيفما شاء، وأن يبث ما يريد من معلومات وحكايات ليستهلكها البعض للأسف بسذاجة مفرطة، ربما لانهم لا يجدون أمامهم أحيانا إلا قصص وشائعات الممثلات والمغنيات وما شابه من حكايات أخرى محزنة في ساحة الفن أو الرياضة. 
 
والحقيقة أن من يتأمل واقع المصريين وحياتهم اليومية سوف يكتشف أن هناك ما هو أهم وأجدى من تداول سلع التفاهة سريعة العطب. 
 
سوف يكتشف أن أيام المصريين عامرة بالجمال والإبداع وبما يدعو حقاً للتفاؤل. انظر للإنتاج الهائل الرائع في معرض الكتاب الأخير، والإقبال الكبير من الناس على الكتابات الجديدة لمبدعين موهوبين. 
 
مئات الشباب، وعائلات بأكملها احتلت جنبات المعرض طوال أيامه، وكأن مصر أرادت أن تتحدي بالأمل الأخبار السيئة والأزمات والشعور بالكآبة والقلق.. تحدى المصريون طقس الشتاء البارد العاصف، وذهبوا إلى المعرض ليضيفوا معنى لأيامهم وطعماً مختلفاً لحياتهم.
 
لسان حالهم يقول: ميزة أن تكون إنساناً عادياً «حقيقيا» أفضل من مشهور تافه!.
 
التعليقات