الكريمة «رئيسة الديوان»

رحلت السيدة زينب بعد استشهاد "الحسين" إلى المدينة المنورة، وفي الطريق طلبت من حادي الركب أن يمر على "كربلاء". 
 
كذلك الحزن يستجلب المزيد من الحزن. 
 
أرادت السيدة أن تنتحب من جدديد على سيد شهداء أهل الجنة، وصل الركب إلى كربلاء وناحت النوائح. تجددت الأحزان بعد العودة إلى المدينة فانسال أهلها في طرقها يعبرون عن فجيعتهم في الشهيد وما وقع لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.وجود السيدة زينب في المدينة المنورة كان ينذر بالخطر على بني أمية.
 
فكلما رآها الناس تذكروا مأساة كربلاء، وزاد بغضهم لبني أمية، وتهيأوا للثورة عليهم، وهو أمر لم يرض الوالي الأموي على المدينة، فطلب من السيدة زينب أن تخرج إلى حيث تريد فأبت، فترجاها من حولها من سيدات بني هاشم حتى استراح قلبها إلى الخروج من المدينة لتكون صوتاً صارخاً في المسلمين في كل بقاع الأرض، صوتاً يحكي المأساة التي شهدتها كربلاء.
 
كانت الوجهة إلى مصر التي ما إن علم أهلها أن عقيلة بني هاشم في طريقها إليهم، حتى تجمعوا لاستقبالها، وصلت السيدة الجليلة إلى مصر في شعبان سنة 61 ه، ومكثت في مصر عاماً كاملاً حتى توفاها الله عام 62 ه. 
 
وهو عام شكّل بالنسبة للمصريين عمراً كاملاً بسبب الأثر الكريم الذي تركته في نفوسهم. 
 
الأثر الذي لم يزل باقياً حتى اليوم ويتجلى في أبهى صوره في الاحتفال بمولدها الشريف.دفنت السيدة زينب بالقاهرة، بعد ما يقرب من عام ونصف من استشهاد الإمام الحسين. 
 
وتقديري أن الحديث عن مرقدها الآخر الموجود بسوريا حديث غير دقيق. 
 
فليس من الوارد أن يرضى الأمويون الذين يحكمون من الشام أن تعيش السيدة زينب المحاربة لهم والمطالبة بثأر أخيها داخل عاصمة حكمهم حتى تموت وتدفن فيها، وهم الذين خططوا منذ البداية لإخراجها منها، ثم إخراجها من المدينة المنورة، حيث شاء الله أن تختتم رحلتها المباركة في الكفاح والنضال في أرض النيل.
 
رحلة طويلة خاضتها عقيلة بني هاشم منذ عام 6 ه، حتى توفاها الله عام 62 ه. 
 
رحلة جللتها الأحزان والنزوح من قطر إلى قطر والسفر من مكان إلى مكان، حتى استقر بها المقام في مصر، حيث التف حولها أهلها، فواسوها وواستهم، ووجدوا فيها ملاذاً من ظلم بني أمية، وركنا ركيناً يأوون إليه في الشدائد، ونسمة كريمة من نسمات أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، اختص بها الله تعالى مصر، دون غيرها من بلاد المسلمين.
 
أطلق عليها المصريون رئيسة الديوان وقالوا أن الحكام يجتمعون عندها، ولا يستطيع أحدهم أن يتخذ قراراً دون مشورتها، فلجأوا إليها بشكاواهم، وخصوصاً ضعافهم الذين لقبوها بـ"أم العواجز". 
 
وحتى يوم الناس هذا لم يزل المصريون يهرعون إلى مقامها الطاهر، يشكون إليها ضعف الحال وقلة الحيلة، يناجونها بآلامهم وأحزانهم، وما أكثر ما تكون الشكوى والمناجاة وسيلة لتخفيف الآلام عن النفس.
 
في كل عام يفد إلى مقامها المصريون من كل فج بأرض المحروسة، احتفالاً بالذكرى العطرة لمولدها. 
 
ذكرى "الوليدة السعيدة" التي سماها النبي صلى الله عليه وسلم "زينب"، وشاء الله أن تكون رحلة حياتها بحراً من الأحزان.
 
مقال / د.محمود خليل
الوطن
التعليقات