روح الشخصية العربية

تكتسب كلمة الملك عبدالعزيز: "لا غنى عنا لمصر ولا لمصر غنى عنا" معنى مترابطًا وواضحًا في الوقت نفسه، وتمثل تلخيصًا وقاعدة أساسية حاكمة للعلاقات بين البلدين، وتظهر الحاجة إليها مع تصاعد الصراع في المنطقة وحولها.
 
ويميز العلاقات بين مصر والسعودية ضفيرة متلاحمة من كنوز الشخصية العربية، تظهر باستمرار في شكل روابط قوية تعبر عن نفسها بوضوح، ويسأل الكافة عنها ويستطلع رد فعلها. 
 
وبينما تفرض لعنة الجغرافيا نفسها في علاقات جوارية وإقليمية في العالم من حولنا، فإن الجغرافيا خدمت البلدين بأكثر مما يتوقع كثيرون.
 
إن الشواهد التاريخية، ولم يُخلق شعب المملكة قبل مائة عام فحسب، هي تاريخ نشأة الدولة السعودية الحديثة، إنما كانوا هناك في هذه الأرض قبل آلاف السنين. تلك الشواهد تقول إن البحر الأحمر بطول سواحله الشرقية والغربية، تحول في أوقات كثيرة إلى بحيرة داخلية تخص الدولتين، والخصوصية هنا بمعنى تدفقات التبادل التجاري والثقافي والعسكري. 
 
وأثبتت النظرة التاريخية أن البلدين خضعتا منذ فجر الإسلام إلى سلطة واحدة، تحت حكم الدولة الإسلامية في البداية، ثم الدولة العثمانية، مع ما يوفره ذلك من علاقات وصلات ممتدة بين الشعبين.  
 
وانعكست تلك العلاقات في السيطرة لسنوات طويلة على البحر الأحمر وتأمينه ضد غزوات البرتغاليين وسائر الطامعين، وتحقيق أمن الحرمين الشريفين وسلامة الملاحة والانتعاش التجاري في مصر والحجاز، وهي العلاقات التي شكلت أرضية ثابتة، وجدت المملكة العربية السعودية نفسها تقف فوقها تقليديًا منذ عهد الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود.  
 
وشواهد الارتباط الحجازي بمصر متعددة، دينيًا وسياسيًا واقتصاديًا، وباكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح كبديل، فإنه بسبب ذلك الارتباط المستدام، ظل البحر الأحمر يمارس نشاطه، وقد نمت الحركة والربط التجاري بين موانئ البلدين في تحد للطريق الجديد للتجارة العالمية..
 
ولم تكن نهاية القرن الثامن عشر الميلادي سوى شاهد على اشتراك الحجازيين في مقاومة الحملة الفرنسية في صعيد مصر، وعبر ميناء ينبع انتقل نحو أربعة آلاف مقاتل بأسلحتهم البسيطة، يعبرون ـ على دفعتين ـ البحر الأحمر إلى مصر. ويذكر المؤرخ الأمريكي كريستوفر هارولد في كتابه "بونابرت في مصر" أن أرهب إمداد هم المقاتلون العرب من الحجاز، وفي خلقتهم صلابة تنطق بها وجوههم. وفي معركتهم الأولى ُهزموا، كما تذكر وثائق وكتابات عدة، تناولت دور عرب الحجاز في مقاومة الفرنسيين في مصر، ولكن في معركتهم الثانية انتصروا وغنموا أسلحة وذخائر، وألحقوا بالفرنسيين أكبر هزيمة عسكرية مؤثرة خلال حملتهم. 
 
ويبدو أن العواطف الجياشة والإيمان بالإسلام والعروبة كسمات عامة للشخصية العربية، كانت وراء الاندفاعات الأولى لعرب الحجاز وللمصريين نحو الشراكة في الأهداف والمصائر، فيما أضيف إليها الكثير من التنظيم، مع تطور الأحداث السياسية، منذ مطلع القرن العشرين. وعند تأسيس المملكة ظلت القيمة والمكانة تحفظهما الذاكرة، والإمكانية والفعل تؤيدهما الرؤية والتطورات السياسية. لم تعد العواطف حاكمة وإن لم تفقد حساسيتها، إنما أصبحت المملكة كيانا كبيرا غير مقسم أو متصارع، وأصبح الملك عبدالعزيز عنصرًا أساسيًا في كل تحرك عربي، وأسمًا لا يمكن تخطيه في غرف مغلقة في العواصم الاستعمارية، كانت توضع فيها رسومات وخرائط المنطقة. 
 
وفي مسيرة أي علاقات بين الأشقاء قد تجد شيئًا من الفتور في بعض المراحل، ولكن كانت البلدان قادرتين باستمرار على تجاوزه، وإعادة العلاقات إلى وضعية أفضل مما كانت، أما العلاقات الدبلوماسية بمفهومها الحديث، فقد بدأت بين البلدين في النصف الثاني من الثلاثينيات مع بداية حكم الملك فاروق، فقد أبرم الملك عبدالعزيز معاهدة صداقة وحسن جوار مع مصر في 7 مايو 1936، رُفع بموجبها التمثيل الدبلوماسي بين الحكومتين إلى مفوضية بعد أن كانت وكالة. 
 
وبينما العالم يرتب أوضاع ما بعد الحرب العالمية الثانية، فإن الملك عبدالعزيز زار مصر مرتين تاريخيتين، الأولى في شهر فبراير 1945 ليلتقي مع قادة الحلفاء في البحيرات المرة، ثم إلى أوبرج الفيوم في الشهر نفسه للقاء الملك الذي غاب عن قمة البحيرات المرة، رغم أنها كانت على أرضه، وكانت لفتة من الملك عبدالعزيز؛ لأنه لم يكن ليقبل بزيارة بلد لا يلتقي فيها بملكه.
 
والزيارة الثانية في يناير بدعوة رسمية من الملك فاروق سنة 1946، ويروي الكاتب الصحفي حافظ محمود أنه كان ضمن الوفد الصحفي الذي استقبله الملك عبدالعزيز في قصر الزعفرانة وأنه سمع منه شخصيًا قوله: "إن خط الدفاع الأول في تاريخ العروبة خط مشترك بين مصر والسعودية".
 
في تلك الزيارة الرسمية الأولى التي امتدت لعشرة أيام أرادت أم كلثوم تقديم أغنية من الإذاعة المصرية، ولما لم تجد قصيدة خاصة، مثلما فعل محمد عبدالوهاب الذي غنى ولحن قصيدة صالح جودت، أضافت خمسة أبيات إلى قصيدتها "سلوا قلبي" لأحمد شوقي؛ حيث طلبت ذلك من الشاعر محمد الأسمر والموسيقار رياض السنباطي، وكانت تحية عظيمة. 
 
استجابت العلاقات المصرية - السعودية لتحديات كثيرة منذ عهد الملك فؤاد، ثم في عهد الزعيم جمال عبدالناصر، مع موجات المد والجزر، ومع الرئيسين السادات ومبارك، وصولًا إلى عهد الرئيس السيسي، إلا أن قادة وشعبي البلدين يجدان دائمًا الوسيلة للعودة السريعة، وتلك هي روح الشخصية العربية.
 
المقال / محمد الشاذلي
الاهرام
التعليقات