أحاديث مع الأبنودي(الأخيرة)

كتب الشاعر عبدالرحمن الأبنودي أوبريت "أفراح النصر" في احتفالات ذكرى مرور 16 عامًا على نصر أكتوبر 73.. ولأن الأبنودي تجنب فيما يبدو نشر نصوص الأوبريتات التي ألفها ضمن أعماله الكاملة، وقد تقترب من عشرة أوبريتات على الأقل، فإن علاقته بكتابة الأوبريت، تحتاج إلى جهد في سبيل ترتيبها زمنيًا..
 
وقفت طويلا أمام الضجة التي أثارها الأبنودي بكتابة أوبريت "أفراح النصر" لارتباطه بحضور الرئيس الأسبق حسني مبارك وقيادات الدولة للاحتفال المقام على مسرح الجلاء بمصر الجديدة.. صدرت الضجة من مثقفي اليسار خصوصًا حزب التجمع وجريدته "الأهالي"، ويبدو أنه الأوبريت الأول له..
 
أما الأغاني الوطنية فللأبنودي باع عظيم فيها، حيث جسد الحس العام لدى الشارع، وبلور مواقف ارتقت بالشعور الوطني والقومي إلى الذروة، ولم يكن العام الواحد يمر إلا وله أغنية فارقة تؤدى في مناسبة وطنية، وغالبًا لا يتقاضى أجرًا عليها، كما قال لي..
 
في تلك السنة (1989) طلب وزير الإعلام صفوت الشريف من الأبنودي كتابة عمل فني كبير بمناسبة الاحتفال السنوي الذي تقيمه الإذاعة المصرية في ذكرى نصر أكتوبر، كان القالب المفضل أو التقليدي هو الاحتفال الغنائي الجماعي، أو ما أطلق عليه "الأوبريت"، وكنت تحدثت أخيرًا مع أستاذ الموسيقى العربية بكلية التربية الموسيقية د. نيفين عبد النبي عن فن الأوبريت، وهو عندها يشبه الأوبرا أو تصغير لها، وفي الأوبرا مشاهد تمثيلية وغناء، وكذلك الأوبريت، وهو فن عرفناه على يد سيد دوريش قبل مائة عام، في أوبريت العشرة الطيبة وغيره، والاحتفالية دائمًا يكون لها مناسبة، بعكس الأوبريت الذي يمكن أن يكون عملًا فنيًا خالصًا، ويبدو أن الأبنودي ارتاح إلى تسمية هذه الأعمال بـ"احتفالية"؛ لأن لها مناسبة محددة، بينما هذا السبب وحده كان كفيلًا بأن أوبريتات الأبنودي وغيره من الشعراء لا يعاد عرضُها إلا نادرًا.. 
 
والخلاصة أنه طالما في العمل الفني عنصرا الغناء والتمثيل فهو "أوبريت"، ولكن لأنه وضع لمناسبة محددة فتكون "احتفالية"..
 
وقبل أن يؤلف الأبنودي تلك الأوبريتات كان للشاعر عبدالسلام أمين حضور كبير في كتابة احتفالات أعياد نصر أكتوبر، ومشاركة لافتة في احتفالات "الليلة المحمدية" التي كان للأبنودي نصيب في كتابة "الليلة السادسة" منها سنة 1990.
 
لم يكن للأبنودي تنظيم سياسي رغم سجنه بضعة أشهر في الستينيات لأسباب سياسية، لكنه بعصبيته وانفعاله، أراد الرد بعنف على نشر الصحف صورة له وهو يصافح الرئيس السادات، قال لي إن صورة اللقاء كانت بشكل أزعجه: "أبدو فيها منحنيًا له"، فقرر الذهاب إلى حزب التجمع والانضمام له، ولكن بعد الهجوم عليه من قبل الحزب، قال لي إن حزب التجمع استفاد من وجودي بين صفوفه، وبصراحة "فكرة وجودي في هذه الأمة تتجاوز فكرة حزب.. أنا حزب.. والناس في الشارع تتعامل معي بهذا المعنى، أني رجلهم".. وحكى لي أنه عندما رأى المثقفين "يرقدون على مقهى ريش وإيزافيتش يمضغون الأحزان ويعلنون تسببهم في النكسة ويحملون أنفسهم الأوزار، ذهبت أنا إلى السويس وأقمت مع الفلاحين والجنود حتى سنة 1970. وأقمت سنة كاملة في السد العالي.. نحن نتفق في أننا ننتمي لليسار ولكني مختلف عنهم"..
 
كان ذلك الأوبريت "أفراح النصر" نقطة الفراق بين الأبنودي وحزب التجمع، ولم أعرف منه بشكل دقيق آنذاك هل فصله الحزب أم استقال.. لأني بالعودة إلى حواري معه وجدته يؤكد أنه لن يستقيل.. وقال لي: جريدة الأهالي تمزقني.. كل هذا لكي أترك هذا الحزب، فأكون أنا الذي ترك، ولكن.. أنا باق.. ثم أضاف: أنا مجرد عضو، ولا أعرف إن كنت حتى الآن عضوًا أم لا؟.. لن أقرر أي شيء.. على الحزب أن يقرر.. إذا كنت لا أعجبه فكريًا وإذا كان يرى أن الفكر الذي أطرحه ـ في مجمله ـ يتعارض مع الخط الفكري لحزبهم "النبيل"، فليفصلوني.. إذا كانوا هم الوطنيون وأنا غير وطني، فليفصلوني..
 
ومنذ ذلك الحين لم تعد هناك علاقة للأبنودي بحزب التجمع أو غيره من الأحزاب.
 
كان الأبنودي حزينًا في تلك المقابلة الصحفية التي نشرتها في مجلة المصور في أكتوبر 1989، وعبر عن غضبه من أساتذة الجامعة الذين يهاجمونه لأنه نسب إلى نفسه جمع السيرة الهلالية، وقال إنه كتب في أول صفحة في الكتاب أنها النصوص الشفاهية للشعراء الشعبيين، هو الذي أنفق في جمعها أكثر من عشرين عامًا، كما كتب مقدمة يشرح فيها تجربته في جمع العمل وطريقة نشره.. كان غاضبًا من النقاد والكتاب ـ واستثنى خيري شلبي ومحمد كشيك ـ الذين يتجاهلون الشعر الحقيقي والشعراء الحقيقيين، ومن عداء شعراء القصيدة الحديثة للقصيدة المكتوبة بلغة الحياة، قصيدة شعر العامية.. "ولم نر منهم ـ بخلاف الراحل أمل دنقل ـ من تحمس لقصيدة لنا". أما على مستوى الاحتفاء الشفوي "فهم يكيلون لنا قصائد المديح، ولكنهم ـ في الواقع ـ يحاولون إزاحة هذا النوع الأدبي من طريقهم بالتجاهل التام والصمت عن الكلام"..
 
المقال/ محمد الشاذلي
الأهرام
التعليقات