«تصريحات ماكرون».. هل تترجم إلى واقع؟

 
أثارت تصريحات الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون أثناء زيارته للصين وهولندا، التى قال فيها إنه ينبغى على أوروبا مواجهة الضغوط وألا تكون تابعة لأمريكا، الكثير من الجدل، وربما كان القادة الأوروبيون ينتظرون مثل تلك التصريحات الجريئة ويميلون لهذا التوجه الذى أعلنه ماكرون صراحة، نحو الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية عن الولايات المتحدة الأمريكية، بما يعد قفزة إلى الأمام، حيث بدأت تتضح معالم التململ الأوروبى بعد تورطه فى الحرب الأوكرانية - الروسية، وتبعيتها للولايات المتحدة الأمريكية فيما تمليه عليها من قرارات.
 
تصريحات ماكرون تظهر مدى الضجر الذى أصاب أوروبا بأن تكون تابعة غير مستقلة فى قراراتها، وتعنى أنها تريد أن تصبح قطباً ثالثاً بعيداً عن سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية.
 
فمنذ إنشاء حلف الناتو بعد الحرب العالمية الثانية فى أبريل عام 1949، والولايات المتحدة الأمريكية هى المسيطرة على قراراته وهى التى تصدر الأوامر، وهى المتحكمة فى سياساته، ومن الخطأ اعتبار الدول الأوروبية دولاً مستقلة ذات سيادة، لأنها فى واقع الأمر ليست أكثر من جزء منفصل من الولايات المتحدة الأمريكية ويعتبرها البعض الولاية 52 بعد إسرائيل، فبعد انهيار الاتحاد السوفيتى أصبحت الولايات المتحدة صاحبة الحصة المسيطرة فى أوروبا ومن أجل الحصول على السلطة الكاملة على المنطقة، قامت برعاية القوات الموالية لأمريكا فى المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والمالية وغيرها من المجالات المهمة فى الدول الأوروبية، ومن هذا المنطلق نرى فى كثير من الأحيان أن الاتحاد الأوروبى يتبع الولايات المتحدة للقيام بأشياء لا تناسبه، وغالباً ما تمضى القارة الأوروبية فى اتجاه مناقض لرغبتها وتفعل ما يعتقده الآخرون أنه غريب، فهم ينفذون قرارات الولايات المتحدة الأمريكية، فالنخب الحاكمة فى أوروبا تسلم بلادها للولايات المتحدة على طبق من ذهب، بل تضر بكل المكتسبات التاريخية التى حصل عليها شعوب تلك الدول.
 
الولايات المتحدة تحاول أن تدير العالم كما تريد، وتلعب بكل الأوراق الممكنة للضغط على هذا الحليف أو ذاك، وتأديب هذا الخصم، وتهذيب ذاك التمرد، ولمواجهة هذا العدو لا مانع لديها من استخدام كل الأساليب القذرة والوسائل الممكنة للتواطؤ مع هذه المنظمة أو تلك، حتى وإن كان حلفاؤها يعانون من نشاطاتها الإرهابية، فأهم شىء هو ألا تتضرر مصالح الولايات المتحدة من ذلك بشكل مباشر.يدرك الغرب أنهم تابعون للولايات المتحدة بشكل أو بآخر، وأنهم لا يستطيعون التخلص من هيمنتها وسيطرتها على اتخاذ القرارات، بحكم أنها تترأس حلف الناتو، فمثلاً مطالبتها للدول الأوروبية بفتح أراضيها لإقامة قواعد عسكرية ليست مجرد شائعات، بل إنها تطالب العواصم الأوروبية أيضاً بزيادة ميزانيات الدفاع، وهذه حقائق مثبتة وأمر واقع، والحرب الأوكرانية - الروسية الأخيرة وضعت القارة العجوز فى مأزق لا تستطيع تجاهله، فى ضوء ما تخترعه واشنطن يومياً من أعداء ومنافسين ودول مارقة تهدد الأمن، حتى أوصلت الولايات المتحدة حلفاءها الأوروبيين إلى منطقة فقدان الثقة بأنفسهم وقدراتهم، ووضعت يدها على مقدراتهم لتبدأ فى ابتزازهم كما هو حاصل فى الحرب الأوكرانية الروسية الحالية، بزعم مواجهة التمدد الصينى الآتى من الجنوب.
 
غير أن التحركات الصينية الأخيرة وخروج الصين عن حيادها بدأ يدق جرس الإنذار بالنسبة للولايات المتحدة، وازداد الأمر سوءاً وتوتراً بعد تصريحات الرئيس الفرنسى وخروجه عن النص الأمريكى المرسوم، وصدى تلك التصريحات التى لاقت استحساناً لدى قادة أوروبيين، منهم رئيس المجلس الأوروبى «شارل ميشيل» الذى كشف عن ميول أوروبية لتوجهات ماكرون نحو الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية عن الولايات المتحدة، مشيرا إلى أن موقف ماكرون لم يكن بمعزل عن مواقف الزعماء الأوروبيين بحسب ما نقلت صحيفة «بوليتيكو» الأمريكية.
 
ما يطالب به ماكرون ليس جديداً، فمنذ تأسيس الجمهورية الخامسة بقيادة الجنرال شارل ديجول، وهو يطالب بالاستقلالية عن الولايات المتحدة الأمريكية، لكن شيئاً من هذا لم يحدث؟ فهل سيعيد التاريخ نفسه، وتبقى تصريحات ماكرون مجرد ذر للرماد فى العيون، وتظل القارة العجوز تحت الوصاية الأمريكية؟ أم ستتجرأ دول أوروبا على نفسها وتتخذ خطوة إلى الأمام نحو استقلالية قراراتها وإنهاء تبعيتها للولايات المتحدة الأمريكية إلى الأبد؟.
 
المقال / جيهان فوزى
الوطن
التعليقات