القوت.. والهدوء

قدم عباس حلمى الثانى نموذجاً فى فهم الشخصية المصرية، ومثّلت تجربته تطبيقاً عملياً للكيفية التى يمكن أن يغازل بها حاكم أوائل القرن العشرين المزاج الشعبى المصرى، وقد حدثتك عن الكيفية التى وظّف بها الخديو حلم المصريين فى التحرر من الاستعمار الإنجليزى، والطريقة التى استخدم بها الروح الدينية لدى المصريين، وكيف قدم نفسه كخديو صالح، يلتقى مع الشعب فى حماسته الدينية، وما يسود تدينه من وسطية، وميل إلى الاحتفالية، مع عدم الممانعة فى توظيف الدين لتحقيق بعض المصالح الدنيوية، رغم ما يردده «التدين اللسانى» من كلام حول سمو الدين وعلوه وتنزيهه عن الأغراض الدنيوية.

اقتحم الخديو الأخير لمصر المحروسة العقل والوجدان الشعبى المصرى من بوابتين أخرىين كشفتا عن فهمه العميق لطبيعة الشخصية المصرية، وهما بوابتا «تأمين لقمة العيش» و«الولع بالاستقرار الذى يؤدى إلى هدوء الحياة».

يلخص عباس حلمى رؤيته على هذا المستوى قائلاً: «الشعب والفلاحون لا يأبهون من حيث المبدأ إلا بكل ما كان يمس خبزهم وهدوءهم بشكل مباشر».المصريون مثلهم مثل أى شعب فى الانشغال بقوت يومهم.

عند هذه النقطة بالذات هام المزاج المصرى بالخديو عباس حلمى الثانى الذى مثّل عهده إحدى فترات الرخاء القليلة خلال فترة الحكم العلوى، حيث حاول قدر المستطاع تحرير الاقتصاد المصرى، ومنح المصريين فرصاً أكبر فى العمل والحركة التجارية، واجتهد فى تحجيم نفوذ التجار الأجانب، وتقليل الاعتماد على المال الأجنبى كمصدر لتمويل الاقتصاد، وكانت النتيجة انتعاشة اقتصادية وصل صداها للناس، انتعاشة لم يشعر المصريون بها إلا بعد رحيل عباس حلمى، وتولى السلطان حسين كامل الحكم مكانه.

فخلال الحرب العالمية الأولى حدث هبوط حاد فى أسعار القطن داخل الأسواق العالمية، فوقع المزارعون فى فخ الديون، واضطر أغلبهم إلى بيع الحلى والمصاغ كى يسددوا ما عليهم من أموال أميرية، وقلّت السيولة النقدية فى أيدى الناس، وطردت العديد من المشروعات الموظفين العاملين بها، وكثرت جرائم السرقة والنهب والقتل، وساءت أحوال الموظفين المصريين بدرجة غير مسبوقة، وضربت مصر موجة عاتية من الغلاء.

أما بوابة الهدوء فهى إحدى البوابات المفضلة التى يحب المصرى الولوج منها إلى ساحة الحياة، فو ميال بطبعه إلى الاستقرار. وقد تميز عهد «عباس» بهذه السمة المحببة لدى المصريين فأحبوا عصره، وحين بدأت أحوال العالم فى الاضطراب، جرَّاء اندلاع الحرب العالمية الأولى، ووصل صدى الاضطراب إلى مصر كان عباس حلمى خارج السلطة والجالس على عرش الخديوية هو السلطان حسين كامل، فتشاءم الناس من وجوده، وبات حلمهم الأكبر هو أن يعود «عباس» من جديد (عباس جاى)، حتى يعيدهم إلى المعادلة المفضلة للحياة (الخبز والهدوء).

تركيبة الشخصية المصرية هى جزء من تركيبة البسطاء فى كل زمان ومكان، المصرى يحب من يؤمّن له خبز يومه ولا يقلق راحته.

فمعادلة «الخبز والهدوء» هى المعادلة الحاكمة له. وقد تحسنت الأحوال الاقتصادية فى عهد عباس حلمى الثانى مقارنة بالظروف التى سادت أواخر عصر إسماعيل، وخلال عصر توفيق، وكان لهذا التحسن صدى طيب لدى الناس.

الخطير فى تجربة «عباس حلمى الثانى» أن الرجل هو أول من غرس داخل الوعى المصرى فكرة الربط بين التمسك بما وصفه مبادئ الإسلام وتحسن أحوال الحياة، وهى المعادلة التى تكاد تكون مصاحبة للعقل المصرى حتى اللحظة، وقد انفجرت فى أذهانهم بصورة آلية بعد الهجرة إلى بلاد النفط، رغم أن التمسك بالإسلام فى الحالتين كان ظاهرياً، ولم يزد على الشعارات التى تتردد باللسان.

المقال / د محمود خليل 

الوطن 

التعليقات