بصمات الزمن

وتدور بنا الأيام ما بين ابتسامة مضيئة إلى ضحكة رنانة وأخرى خجولة متوارية، إلى نظرة مختلسة ورفيقتها الفاحصة المتأملة بحذر شديد يمنع المحيطين من اكتشافها، إلى مشروع دموع نحاول كثيراً أن نحجبها أو نجملها أو على الأقل نجعلها تنهمر ببطء وحذر وفى صمت حتى لا تترجم مدى الألم أو الحزن الذى يهاجمنا، وإن كنا من سعداء الحظ فقد نجد ذراعين أو صدراً نخفيها داخله ومعها نخفى الكثير والموجع وغير المتوقع أو المنتظر من الأقدار والأيامومع كل رقم يضاف لأعمارنا ويوم نحياه وخطوات فوق طريق بدأناه للوصول للهدف يضيف لنا الزمن بصمات خاصة جداً على ملامحنا وأجسادنا وخطواتنا وردود فعل عضلات وجوهنا بل وحتى أصابعنا وكفوفنا وخصلات شعرنا ولونها وطولها وكثافتها وجنونها وهزاتها أو ثباتها، وبتعبير أدق يحولنا إلى صور أخرى لا نشعر بما حدث فيها من تغيرات إلا عندما نصطدم بكلمات تعجب من أحد الأصدقاء أو بشهقة إعجاب من أحدهم على ما أضاف الزمن من جمال والعكس صحيح تماماً أو فلنقل والعكس مؤلم للغاية.

وفى علم الطب الشرعى وما يحتويه من مشاهد قاسية وصريحة وموجعة تجيب عن أدق التساؤلات تلعب البصمات أهم الأدوار فى الوصول للحقائق وفك الألغاز، ولعل ما قاله العالم الإنجليزى السير فرنسيسكو: (لا توجد بصمة إصبعين متشابهين، حيث تبقى البصمة كما هى كل حياة الشخص ولا تتشابه مع أحدها بتاتاً حتى التوأم المتطابق الذى يتشارك الحمض النووى نفسه لا يمتلك بصمات توأمه نفسها) هو الحقيقة.

ويبدو أن ذلك الجزء من جسد الإنسان هو الوحيد الذى استطاع أن يقاوم الأيام والأقدار والأحداث التى نمر بها وتترك آثاره أعلى ملامحنا ولم يستطع تغييرها، فمن المعروف علمياً أن بصمات اليد من الأساليب البيولوجية فى تحديد هوية الأشخاص لأنها لا تتغير حتى مع تقدم العمر ويرجع علم التشريح شكل البصمة نفسها بتفاصيلها الصغيرة وترتيبها وحجمها إلى تلك الأشكال الثلاثة الأساسية التى تشكلها وهى الحلقات والأقواس والدوامات وعددها أيضاً حيث يرجع تميزها إلى تلك التفاصيل الدقيقة.

وتتكون بصمات الأصابع فى الفترة ما بين الأسبوع الـ١٣ والـ١٩ من عمر الجنين فى رحم الأم لتظل ثابتة ملازمة للإنسان حتى آخر العمر، وقد ثبت علمياً أنه لا يمكن أن تتشابه الشيفرة الوراثية لدى شخصين وحتى فى حالة التوائم المتطابقة تظل بصمة الإصبع هى الطريقة التى نميز بها بين التوأمين.

وإذا كانت بصمات الزمن تجمل الملامح وتحكى وتعترف بالأيام السعيدة والحب والاحتواء والنجاح أو تحكى المعاناة والوجع والفقد والبحث عما لا يجىء ومن لا يعود فإن بصمة الإصبع تطورت وتوسعت مجالات استخدامها لتشمل تأمين الممتلكات الشخصية، حيث يتم استخدامها كنوع من أقفال الحماية فى البنوك وفى المنازل لحفظ البيانات وكذلك فى مجموعة من الأجهزة الذكية، حيث تتوافر فى أجهزة الهواتف الذكية حالياً الدخول إليها فقط عن طريق البصمة فلا يستطيع أحد إزالة القفل إلا مالكها.

ومن أهم استخدامات بصمات اليدين ما يحدث فى الإنتربول الدولى، حيث توجد لديه قاعدة بيانات دولية تدعى منظومة التبين الآلى لبصمات الأصابع ويرمز لها بـ(AFIS)، ويمكن للمستخدمين المخولين فى البلدان الأعضاء بتلك المنظمة مقارنة البصمات المسجلة فى قواعد بياناتهم الوطنية بالأخرى المسجلة بتلك المنظومة عندما يشتبهون فى أن للجريمة التى يفحصونها طابعاً دولياً، حيث تتضمن أكثر من ٢٢٠٠٠٠ بصمة مسجلة، وفى عام ٢٠١٩ تمكن الإنتربول من تحديد هوية أكثر من ٦٠٠ شخص نتيجة تعزيز تبادل البصمات ومقارنتها من قبَل البلدان الأعضاء.

ومن الطريف أن يحتوى جسد الإنسان على ٦ أعضاء تصلح أن تكون بصمة خاصة له، حيث أثبتت الدراسات ذلك ونشر فى تقرير على موقع (يورونيوز) وهى أعلى اللسان فلا يتوافق اثنان أبداً فى شكل أعلى اللسان، والأسنان أيضاً لديها بصمة خاصة لكل فرد وأصابع القدمين والشفاه فلا تتشابه التجاويف والانحناءات الموجودة بالشفتين مع أى شخص وكذلك قزحية العين وهى العضلة القابضة والباسطة لبؤبؤ العين، ومن المعلومات الطريفة والعجيبة أن قزحية كل فرد تتشكل داخل رحم أمه فلا تشبهان قزحيتى أى فرد آخر والأشد عجباً هو أن قزحيتى الفرد الواحد لا تتشابهان أيضاً.

وهكذا نعيش العمر كله ببصمات خاصة جداً حتى تلك التى يطبعها فوق وجوهنا الزمن.

المقال / خديجة حمودة 

الوطن 
التعليقات