«سيلفي» السد الهندي

ويمر أسبوع آخر ملىء بالأحداث والحوادث، ووراء كل حدث عبرة وفى كل حادثة درس وحكمة. ولنا أن نطلب العبرة والدرس والحكمة ولو فى الهند. ومن الهند خبر أوردته مواقع صحفية فى قسم «المنوعات» لكنه جدير بأن يكون درس الدروس وحكمة الحكم. السلطات الهندية فرضت غرامة مالية على مسئول كبير متهمة إياه بإساءة استغلال منصبه.ماذا فعل المسئول الهندى؟ وجد نفسه عند بحيرة كبيرة أمام أحد السدود، فأخرج هاتفه المحمول ليلتقط لنفسه صورة «سيلفى»، إلا أن هاتفه سقط فى البحيرة. فماذا فعل المسئول؟ أمر العمال الحكوميين بإفراغ مياه السد، لكنّ أياماً طويلة من محاولات الإفراغ اليدوى التقليدية لم تُجدِ، فاضطر إلى الاستعانة بمضخة قامت على مدار أيام بإفراغ ملايين اللترات من المياه.

وتكللت العملية بـ«النجاح» ووجد العمال المحمول، إلا أنه كان قد تشبع بالمياه وبات «قطعة خردة».اكتشفت السلطات ما حدث، فغرّمته مبلغاً مالياً زهيداً مقارنة بقيمة الهاتف «الخردة»، وهو ما يحمل رسالتين متناقضتين. الأولى أن سوء استغلال السلطة ربما ينتهى بالشخص إلى التعرض للعقوبة ومعها الفضيحة. والثانية أن العقوبة أحياناً تكون مشجعة على اقتراف المزيد منها، وذلك من وجهة نظر حسابية بحتة.

عموماً، ما وجدته من عبرة فيما جرى فى الهند يرتبط بفكرة احترام الفضاء العام واعتباره ملكية عامة لا خاصة، دون شرط وجود عسكرى يمشى وراءك ليقيّم أعمالك ويقوّم تصرفاتك. والمثل الذى تبادر إلى ذهنى هو الفضاء العام فى منصات التواصل الاجتماعى، ولا سيما الصفحات التى تنشئها مجموعة من الأشخاص الذين يشتركون فى مصلحة عامة ما، ويكون الغرض من تدشين الصفحة أو المجموعة المغلقة على أصحاب هذه المصلحة هو تبادل الأخبار أو النصائح المفيدة للجميع.

مثلاً مجموعة سكان فى حى أو عمارة ما يدشنون مجموعة «واتس آب» لنجدة بعضهم البعض فى حالات الكوارث، تبادل معلومة عن انقطاع الكهرباء، تشارك رقم هاتف لسباك أو نجار وغيرها. وفجأة تتحول الصفحة لنشاط دينى أو فنى أو رياضى محموم.

ويا ليته نشاط نابع من بنات أفكار المشاركين لكنه فى أغلبه نقل للمنقول والذى يمكن بدقّة زر لمن يرغب فى الحصول على أطنان منه على أثير الإنترنت.

وبالطبع «ممنوع الاقتراب» من النشاط الأول ذى الطابع الدينى، وإلا يتحول المعترض إلى زنديق مجرم أو كافر ملحد. ألم يجرى العرف الجديد على قذف كل منتقد للمبالغة والإفراط فى إظهار التدين عبر مكبرات الصوت وتدوينات الأثير وملصقات الميكروباص بطوبة «يعنى عايز الناس تتكلم فى الجنس؟».

مساحة الفضاء العام المخصصة للصالح العام، وفى هذا الشأن تحديداً أخبار العمارة وأرقام طوارئ المجارى والكهرباء ونجدة من تعطلت سيارته على أول الشارع أو سُرقت محفظته فى الأوتوبيس.. إلخ، تتحول بقدرة قادر إلى مساحة لفرض الرأى الخاص.

وحين يكون هذا «الرأى الخاص» قصص الأولين وحكايات «جاء إعرابى»، فإنها تتلون فوراً بألوان القدسية وشعار «الشنطة فيها كتاب الدين».

ويا ليت هذا المحتوى المتفجر قصصاً وحكايات عمرها مئات السنوات عن الالتزام والاتزان والاحترام يترجم فعلاً على أرض الواقع. الواقع هو أن أغلبه يبقى قصصاً وحكايات، لكن حين تطالب صاحب السرديات بسداد نصيبه فى إصلاح المصعد، يؤنبك ويبكّتك: «يا أخى أحدثك عن عظمة الأولين وروعة السلف، وأنت تحدثنى عن إصلاح الأسانسير؟! خسئت؟!» وعلى سيرة مجموعات وصفحات الـ«سوشيال ميديا»، أجد نفسى أتساءل: أين ذهبت جروبات الماميز؟ هل انتهت مهمتها فى إصلاح حال التربية وتقويم أوضاع التعليم؟ لم أعد أسمع عنها أو منها شيئاً؟!لكن ما سمعته قبل يومين يمثل بالنسبة لى لغزاً عجيباً ولوغاريتماً مريباً، فبينما أشترى خضارى وفاكهتى مع غيرى من المواطنين فى محل صغير، فجأة تحدث حالة من الهرج والمرج.

صاحب المحل يخبر الجميع بأن عليهم إما الإسراع بوزن مشترياتهم ومغادرة المحل أو البقاء معنا لبعض الوقت فى الداخل. هرع البعض ووزن ودفع وخرج، فيما اختار البعض الآخر أن يكمل تسوقه على مهل. فخفة ورشاقة، أطفأ صاحب المحل الأضواء، وأغلق باب المحل على مَن فى الداخل وطلب من الجميع عدم التحدث بصوت مرتفع. ما القصة؟ يقول: اتصل بى أخ من الجهاز وأخبرنى بأن هناك حملة فى الطريق. وفعلاً، سمعنا صخب الحملة فى الخارج، بينما نحن نتسوق ونهمس ونلهو ونضحك.

تلقى صاحب المحل مكالمة أخرى: لقد انتهينا وانصرفنا. يضىء الرجل الأضواء، يفتح باب المحل، نتحرر جميعاً ونضحك كثيراً، ويمضى كل منا فى طريق.القصة تحمل الكثير من العبث والقليل من الحكمة.

والحقيقة، لا يسعنى إلا تذكر الراحل الجميل سعيد صالح حين كان يشد «أستك الشراب»، وبسؤاله عن سبب الشد، يقول: أشده يسلعنى. لكن يظل مكون العبث هو أكبر وأظرف.

المقال / امينة خيرى 

الوطن 

التعليقات