فيضان الحنين

بعيداً عن الأنهار والبحار والظواهر الطبيعية التى تخرج من بين جنباتها وتهاجمنا أحياناً بقسوة وشدة وعنف لتأخذ فى طريقها كل شىء من بشر وأحلام وخطط لقضاء أوقات سعيدة وصور الذكريات التى تزدحم بها دفاترنا والتى كنا ننتظرها وتتحول فجأة إلى قصاصات من أوراق صحف تتحدث عن إعصار وأمواج وضحايا وتضع صوراً مؤلمة مشوشة مهتزة لدمار منتجعات واختفاء ممتلكات ومقاعد وطاولات طالما تجمعت حولها أسر وأصدقاء وأحبة فى بداية الحياة والعثور على جثامين يلقى بها البحر بعد شهور أو أيام ربما نجد بعضها متعانقاً وآخرين يبحثون بأيديهم عمن ينتشل وأطفالاً بلباس البحر فى أحضان الأمهات بحثاً عن نجاة لم تحدث وأمان ضاع مع غضبة الطبيعة وفيضان المياه.

وبعيداً عن السدود الاستراتيجية التى تبنى بمساعدات غير بريئة ذات أهداف استعمارية لوضع اليد والسيطرة على دول لا تملك حق تقرير المصير وربما تدفعها لحروب بالنيابة عنها وقد تقضى على دول بأهلها ومبانيها وزراعاتها وأجيالها الثلاثة من أحفاد وأبناء وآباء عملوا بأيديهم فى بناء تلك السدود إلا أن المنافع والأطماع الدولية لا تقاس بالمشاعر الإنسانية وتأخذ فى طريقها كل ذلك دون أن ىتردد.

ونقلة للمشاعر والتجارب الإنسانية التى نمارسها وسط تلك الأعاصير والفيضانات لأنها حقيقة لا بد أن نعيشها ونستغرق فيها بكل ما لدينا من أملاك عاطفية وأحبة وأعزاء وأصدقاء وأهل أوصانا بهم الآباء والأمهات لنصل الرحم ونكون من أهل الجنة فإننا نعانى ونعيش فى جميع مراحلنا العمرية من (فيضان الحنين) ويا له من هجوم عنيف مؤلم لا بد من البحث عن علاج له أو فلنقل للدقة لا بد من إيجاد مسكن لآلامه. وعن ذلك الحنين يطلق الطب النفسى مصطلح النوستالجيا الذى يعنى الحنين للماضى وعرفته الإنسانية منذ أكثر من ٣٠٠ سنة وكانت فى الأصل تشير إلى الحنين إلى الوطن والأرض وقد أدى إلى انحراف الدلالة على مر القرون إلى توسيع مفهوم الشوق أو افتقاد جوانب من الماضى الشخصى للإنسان مثل أن يشعر الإنسان فى الأربعينات من عمره بالحنين للطفولة.

والحنين هو الشوق العاطفى للماضى وهو تجربة عاطفية عامة وعالمية واجتماعية للغاية تتمحور حول خيالية الحنين حول الذات والروابط الاجتماعية المهمة وأحداث الحياة ذات المغزى الشخصى. ويفترض الكثير من الناس أن الحنين إلى الماضى هو مجرد ترفيه وشعور يستمتع به الأفراد لأنه يعيدهم لأيام شبابهم الأكثر راحة بينما يرى البعض أنه دليل على عدم قدرة الشخص على التكيف مع الحاضر وربما يشير إلى الخوف من التغيير. ويعتبر علماء النفس الحنين للماضى مورداً نفسياً يمكن أن يحدث من خلال التذكارات الصريحة بالماضى مثل الاصطدام بصديق قديم أو سماع موسيقى اعتدنا سماعها أيام الشباب إلا أنهم يؤكدون أن السبب الأكثر شيوعاً له عندما يصادف الشخص إحباطاً أو يهاجمه حزن بطريقة ما وربما الملل أيضاً.

وقد تحدث محللون وقادة أعمال عن الحنين أو بمعنى علمى عن النوستالجيا فى التسوق والإعلان حيث اكتشفوا أن ذلك الإحساس قد يساعد بعض الشركات على بيع مجموعة من المنتجات للمستهلكين من خلال جعل الناس يركزون على الماضى كما يستخدمه السياسيون دائماً عند مخاطبة الجماهير فى حملاتهم الانتخابية. وقد درس باحثون فى جامعة ولاية واشنطن كلية إدارة الأعمال والاقتصاد ردود فعل المستهلكين تجاه الإعلانات التى تبعث على الحنين إلى الماضى مقابل الإعلانات المخالفة لهذا الاتجاه فوجدوا أن الأولى جعلت الناس على استعداد لدفع المزيد مقابل الأشياء التى تهمهم وقد استفادت من تلك الفكرة العلامات التجارية الكبيرة التى استطاعت أن تبنى علاقات عاطفية مع عملائها حيث زادت مبيعاتها بنسبة عالية. كما أثبتت التجارب الميدانية لأبحاث دارسى علم النفس أن الحنين للماضى يجعل الإنسان أكثر دفئاً بالمعنى الحرفى وقد وجدت سلسلة من الدراسات العلمية تم نشرها عام ٢٠١٢ أن الاستماع إلى موسيقى الحنين إلى الماضى تسبب فى ارتفاع درجة الحرارة المحيطة للمشاركين بمعنى آخر أن الحنين جعلهم أكثر دفئاً حتى إن هؤلاء الأفراد أنفسهم كانوا أكثر تحملاً للبرد عندما طلب منهم غمس أيديهم فى الماء والثلج. فلنحرص على ذكرياتنا ونَعِشْ ونستمتع بفيضان الحنين.

المقال / خديجة حمودة

التعليقات