ما فعلته الـ«سوشيال ميديا» بنا

أخبار الأسبوع وما وراء الأسبوع وردود فعل الناس على ما جرى كلها جديرة بالرصد والمتابعة، ولمن يهمه الأمر الدراسة لعلاج ما يمكن علاجه. علاج ما أصاب الكوكب بسبب الذكاء الاصطناعى، وفى القلب منه الإنترنت، وفى قلب القلب منه الـ«سوشيال ميديا»، سيستغرق قروناً، هذا إن تنبَّه أحد إلى أن الموضوع فى حاجة إلى علاج. حتى اللحظة، ورغم أن الآباء المؤسسين للذكاء الاصطناعى والقائمين على أمره وأمر منصاته اتفقوا فيما بينهم، أو ربما بمحض الصدفة، الله أعلم، أن يحذروا البشرية من أن فناءها قد اقترب إن هم تركوا الذكاء الاصطناعى يرتع فى أرجاء بيوت الثمانية مليارات شخص على سطح الأرض، إلا أننى لا أظن أن خطوات أو إجراءات حقيقية ستُتخذ، اللهم إلا بعض خطوات لتأمين بعض الدول وحماية مصالحها فقط لا غير.وأعود وأنظر إلينا وإلى ما فعناه بالـ«سوشيال ميديا» وما فعلته الـ«سوشيال ميديا» بنا. ما كدنا ننتهى - أو على الأقل نمَلُّ - فنطوى صفحة الهبد الأيديولوجى والرزع الاستقطابى حتى دخلنا بكل قوتنا فى الاغتراف من خيرات «تقليب الرزق» عبر الأثير. جيوش المؤثرين والمؤثرات حتماً فيها جوانب إيجابية، لكننا فعلنا بالفكرة تماماً كما نفعل حين يحقق «عم عبده» ربحاً بتحويل «شنطة عربيته» إلى مقهى «على الواقف» يقدم الشاى والقهوة، فإذ بـ«عم حسين» و«عم فتحى» و«عم سيد» و«عم إبراهيم» وكل الأعمام يحولون «شنط عربياتهم» إلى مقاهٍ متراصة فى الشارع نفسه.هذا الكم المذهل من المصريين والمصريات المقيمين على الأثير طيلة ساعات النهار والليل يؤثرون بالفعل فى الملايين. لكنى أطرح بضعة أسئلة: هل مسماهم الوظيفى «مؤثر» و«مؤثرة»؟ وهل بينهم من يفكر فى مستقبل «المحتوى التأثيرى» الذى يقدمه بعد شهر من الآن، ولن أقول بعد سنة أو خمس سنوات؟ وللمتفرغين والمتفرغات منهم، هل فكروا فى الفجوة التى ستتركها سنوات التأثير العنكبوتى فى «سيرتهم الذاتية»، بمعنى إن احتاج أحدهم أن يلتحق بوظيفة، وتقدم بسيرته الذاتية حيث مساحة بيضاء فارغة هى طول مدة عمله بالتأثير، هل ستؤثر على فرصه فى العمل الحقيقى؟ وبالنسبة للأزواج والزوجات الذين يطلون علينا من كل فج عميق ينقلون إلينا ما لا يلذ وما لا يطيب من تفاصيل حياتهم اليومية، ماذا يرتدون، ومتى يتعاركون، وكيف يتلاطفون، ومن يساعد صغارهم فى الدراسة، وبماذا يحشون سندوتشات المدرسة، والقائمة طويلة. وبعيداً عن ردود بعضهم الفجة على انتقادات تعرية حياتهم الشخصية بهذا الشكل الذى أراه رديئاً وسخيفاً ومبتذلاً، ألم يفكروا فى شكل الأسرة ومستقبلها ونفسية صغارهم وقيمة الخصوصية فى حياتهم مثلاً؟حرية شخصية؟! فليكن، ولكن لماذا ندافع بهذه الشراسة عن الحرية الشخصية، ثم تأتى أحداث الأسبوع (وكل أسبوع) لتسلط الضوء على تحول قطاع عريض فى مجتمعنا إلى جلادين وجلادات، ولكن فى تخصص واحد فقط: الإناث وملابس الإناث وأجساد الإناث وكل ما يختص بالإناث من مظهر؟! هالنى موضوع «صاحبة الفستان الأزرق»، بدءاً بمن سمح لنفسه بالتصوير ثم التحميل على الأثير، مروراً بردود فعل الناس والذين كادوا يقيمون الحد عليها لولا أنهم لا يعرفونها، وانتهاء بالسيدة نفسها التى دافعت عن نفسها فى برنامج تليفزيونى بقولها: «سايبين الناس يعلموا فيديوهات خليعة ويحاسبونى»! ويبدو أنها لا تعلم أن المجتمع، ومن خلفه حراس الفضيلة من كتيبة المحامين تخصص «فساتين الستات»، يقومون بالواجب وأكثر فى البحث والتنقيب فى أغوار المنصات بحثاً عن فستان هنا أو بنطلون هناك من شأنهما أن يجرحا شعور المجتمع الملتزم المنضبط السائر على الصراط المستقيم.الأدهى من ذلك أن المذيعة فى إطار دفاعها عن صاحبة الفستان أعلنت أمام «هيئة المحكمة» الموقرة المشكَّلة من المشاهدين والمشاهدات دلائل وقرائن براءة السيدة. قالت: «أنا سألت عليكى فى المنطقة وعرفت أصلك وفصلك. انتى بنت حلال وبنت كويسة».وبعيداً عن الحكم الصادر فى حق «البنت الكويسة»، يلفت انتباهى دائماً فى السنوات القليلة الماضية تصاعد وتعاظم ظاهرة «كراهية» و«تربص» و«تنمر» قطاعات آخذة فى التمدد من المجتمع بأهل الفن، لا سيما الفنانات، وبالطبع فى حال زواج الفنانة من فنان، فإنه ينضم لمنظومة الكراهية. بيننا من يبحث وينقب عن صور وتصريحات وأفلام الفنانات، ثم يخصص كل وقته لشتمهن وسبِّهن ومعهن أزواجهن. أدلة الإدانة فستان أو رقصة أو مشهد فى فيلم أو ابتسامة أو مشية أو حركة. واللافت أن الغالبية المطلقة من هؤلاء الذين وهبوا حياتهم للتنمر بالفنانات تنضح «بروفايلاتهم» الشخصية بكل ما من شأنه أن يخبر العالم أنهم متدينون جداً ويحبون ربنا جداً ويتمنون أن يختموا حياتهم بعمل صالح ويعيشونها بما يرضى الله... إلخ.لقد كان أسبوعاً حافلاً بإصدار الأحكام وتسليط الضوء على ما فعلته الـ«سوشيال ميديا» بنا وما آلت إليه أحوال التزامنا وصلاحنا.
المقال / امينة خيرى
الوطن

 

التعليقات