يا أهل المحبة

فى الصباح الباكر تنطلق السيمفونية البديعة الرومانسية التى تنافس موسيقى بيتهوفن وموزارت وتشيكوفيسكى وتنطلق تلك الحناجر الصغيرة الرقيقة الدقيقة بأصوات أصحابها وكأنها تكتب مفردات السلم الموسيقى بندائها للأحبة، فى محاولة للاختيار والتقارب والتعبير عن المشاعر الناعمة، وتشاركها صغارها العزف فى محاولات النداء والاستغاثة وطلب الطعام والحماية والدفء والونس. وإذا كانت السيمفونيات العالمية قد حملت أسماءً تعبر عن مضمونها، فمنها ضوء القمر، وبحيرة البجع، وليلة موسيقية قصيرة والخروج من الجنة، والقداس، فإن أهل المحبة الذين يغردون لنا ويحكون يومياً مع أول خيوط النهار قصص الحب والهيام والغرام والانسجام والعراك والرحيل وقدوم المواليد الجديدة والبحث عن طعام ونداء البعيد ليحضر ويشارك الولائم والدفء والغناء قد منحهم الله أجمل الأصوات التى تُرجمت إلى أسماء معبّرة تنافس ما يطلقه الموسيقيون على أعمالهم ولا عجب فى ذلك، فلغتهم هى الوحيدة التى تجمع سكان الكرة الأرضية وتطربهم وتسعدهم أو تثير شجنهم وتبعثر ذكرياتهم فى الهواء، لتصل إلى السحاب وتسبّح مع الصور والكلمات. وقد تعلّمنا فى طفولتنا أن للعصافير الصغيرة زقزقة وتغريداً والحقيقة أن هذه وتلك لا تعتبر من أسماء أصواتها، فهما يعنيان التعبير عن صوت الطائر وترديده للصوت، لا عن صوته نفسه فنقول زقزق العصفور، أى ارتفع صوته باللحن. أما إذا وقع أحد هؤلاء فى الحب، فلا بد من عزف خاص بأجنحته الصغيرة، وكأنه يصفق ليُلفت انتباه الحبيبة ويناديها، وهنا يتغير الصوت إلى الزغردة، التى تتكون من مجموعة سريعة من النغمات المتماثلة، أما الصغار فإن أصواتها الدقيقة ذات الصوت المرتفع القصير تتميز عن غيرها، فهى النداء للأم والتعبير عن القلق من الغريب والتوتر من الخطر الذى قد يقترب دون إنذار. وفى عالم الطيور يعتبر علماء البيئة والطبيعة رسائل الطيور على درجة عالية من التعقيد من حيث التنوع والمعنى والترجمة، كما قد تختلف بسبب تنوعها بين رسائل الإنذار المختلفة. وفى هذا السياق، أظهرت دراسة جديدة أجراها الباحثون فى جامعتى إكستر وزيوريخ بأستراليا ونُشرت فى صحيفة بلوس لعلم الأحياء أن طائر الكستناء المتوج الثرثار طائر اجتماعى بامتياز وجد فى المناطق الأسترالية النائية، لديه قدرة على نقل معنى جديد من خلال إعادة ترتيب الأصوات غير المفهومة فى نداءاته. وهذا التواصل ما هو إلا تذكير بالطريقة التى يصوغ بها البشر كلماتهم. وتؤكد صاحبة الدراسة د. سابرين إنفيسر من جامعة زيوريخ رغم أن الدراسات السابقة تشير إلى أن الحيوانات وتحديداً العصافير قادرة على ترتيل أصوات مختلفة مع بعضها كجزء من شدو معقّد إلا أن هذه التغريدات تفتقر بشكل عام إلى معنى محدّد كما أن تغيير الأصوات ضمن تغريدة ما لا يبدو أنه سيُبدل رسالتها الكاملة. وتضيف أنه على نقيض معظم الطيور المغرّدة فإن عصافير الكستناء المتوجة لا تغرّد عوضاً عن ذلك، فإن مجموعتها الصوتية الواسعة تتميز بنداءات منفصلة تتكون من أصوات فردية وسماعية أصغر. ويقول الباحث المشارك فى العمل نفسه البروفيسور آندى راسل من جامعة إكستر، والذى يدرس العصافير الثرثارة منذ عام ٢٠٠٤: نعتقد أن تلك العصافير تعيد ترتيب صوتين لتنظم معنى جديداً، لأن القيام بذلك من خلال جمع بين صوتين موجودين مسبقاً هو أسرع من إنشاء صوت جديد. والطريف أن الباحثين لاحظوا ذلك، خاصة عندما أعادوا تشغيلهما، حيث أظهرت العصافير المصغية أنها قادرة على التمييز بين أنواع النداءات المختلفة من خلال ردود فعلها، كالنظر إلى الأعشاش عند سماع نداء الطعام السريع من الصغار أو النظر نحو العصافير القادمة عندما تسمع نداء الطيران. وهكذا تحصل تلك الكائنات البديعة على لقب أهل المحبة عن جدارة وبلا منازع.
المقال / خديجة حمودة
الوطن

 

التعليقات