شظايا وبقايا

تسجل لنا السينما العالمية تاريخ الحروب العالمية والصراعات القبلية منذ عهد ما قبل الميلاد وحتى الآن، كما تقص علينا الصراع على السلطة والمقاعد والمناصب والنزاعات بين العصابات الدولية وتجار الممنوعات والسلاح ووصل الأمر إلى الخلافات العلمية بين مخترعى الأوبئة والميكروبات، التى تستخدم فى قهر الشعوب وإخراجها من السباق الحضارى إلى قاع التقدم والازدهار، فقد طالت الحروب أدمغة العلماء والعباقرة وأصبح من الممكن، أو بالتأكيد، أن تنشأ أزمة دبلوماسية بين بلدين بسبب أحدهم أو بسبب الاستحواذ على أوراقه أو تجاربه التى يمكن أن تبيد شعوباً كاملة، وربما بسبب اغتياله أو اختطافه، ولعل النتائج التى وصل إليها الأثريون بعد فحص المومياوات الخاصة بتوت عنخ آمون وغيره من ملوك الفراعنة والأشعات الحديثة، التى أخضعوها لها فأثبتت أن الوفاة نتيجة قتل وعُنف، لأكبر دليل على أن الإنسانية عرفت كل ذلك منذ بدء الخليقة.

وفى جميع تلك الأحوال والصراعات تكون الضحايا بالملايين وتتحول المجتمعات إلى شظايا وبقايا وتتبعثر العائلات فى بقاع الأرض، طالبة اللجوء السياسى ولم الشمل والمعونات وتأشيرات دخول الحدود والنجاة من قسوة المناخ والثلوج، وندرة الغذاء والثياب والمأوى، وأحياناً من مطاردة الميليشيات والعصابات الدولية وتجار البشر والأعضاء.وقد ازدادت الشكوك ووصلت إلى حد اليقين أن يستطيع العلم وأهله العبث فى طبقات الأرض والجبال بمعادلات علمية قد تؤدى إلى حدوث زلازل عنيفة تغيّر الخريطة المعمارية والسكانية، بل وتُنهى وجود بعض المدن تماماً.

وإذا استطاعت تلك الخيام والمعسكرات والصحارى، بل والرياح والأمطار ومخرات السيول وأمواج البحار والمحيطات والمقابر الجماعية وجمعيات الإغاثة الدولية بمعداتها والعاملين فيها وجدران السفارات وأبوابها أن يسجلوا ما شاهدوا وما كسر قلوبهم ودفع بدموعهم كالشلالات حزناً على الإنسانية التى تسحقها تلك الأحداث، فستحصل هذه الأوراق والأفلام على جائزة نوبل فى الآداب والفنون لتنافس الأديب المصرى الكبير نجيب محفوظ فى وصف الحقائق والتعبير عن المشاعر والآهات والحرمان من ممارسة الحياة.

ووسط كل هذا الدمار والدماء والركام والحطام وبقايا الإنسانية تعيش الشعوب وتعمل المؤسسات الدولية فى محاولات لحماية ما يمكن أن ينتشل من هذه الأجواء المرعبة التى تخلط المشاعر والأهداف والجنسيات بلا رحمة ومعها تدفن الأحلام والأمنيات وقصص الحب وتدمر الأمومة والأبوة عندما يعجز هؤلاء عن حماية فلذات أكبادهم وأحفادهم وعجائز الأسرة من هذا الفناء.

وتشير إحصائيات منظمة الأمم المتحدة وتقاريرها إلى أن الجريمة تقتل الآن عدداً من الناس أكبر بكثير من العدد الذى تقتله النزاعات المسلحة، ففى عام ٢٠١٧ أودت جرائم القتل بحياة ما يقرب من نصف مليون شخص فى جميع أنحاء العالم، وهو ما يتجاوز بكثير عدد الذين فقدوا أرواحهم بسبب النزاعات المسلحة الدائرة، وهو ٨٩٠٠٠ شخص، وعدد من قتلوا فى هجمات إرهابية وهو ١٩٠٠٠.

فمنذ عام ١٩٤٦ أخذ العدد المطلق لوفيات الحروب فى الانخفاض على الصعيد العالمى، وتؤكد تقارير الأمم المتحدة أنه إذا استمرت معدلات القتل فى الارتفاع الحالى البالغ ٤٪ فلن تتحقق بحلول عام 2030، الغاية من أهداف التنمية المستدامة التى تنص على الحد بدرجة كبيرة من جميع أشكال العنف وما يتصل به من معدلات الوفيات فى كل مكان.

وتواجه تلك المنظمات الإنسانية الكثير من العوائق فى عملها بسبب التوترات الإقليمية التى لم تحل وانهيار سيادة القانون وغياب مؤسسات الكثير من الدول والمكاسب الاقتصادية غير المشروعة وتفاقم ندرة الموارد بسبب تغير المناخ، ولم يبق أمامها لحماية البشرية من التحول لشظايا وبقايا إلا الوساطة التى تتمثل فى استخدام الدبلوماسية ومكاتب المساعى الحميدة والمبعوثين الخاصين الذين يجوبون العالم بحثاً عن النجاة لهؤلاء.

المقال / خديجة حمودة 

الوطن

التعليقات