ألقالك حد

الجالآن فقط عرف «الندم» طريقه إليها، وهى التى اعتادت أن تطارد أحلامها دون «هدنة» تتأمل خلالها موقع أقدامها.. الآن تجلس «وحيدة» وجهها خالٍ من مساحيق النجومية، متعب من السهر والقراءة، حفرت نظارة القراءة آثارها عليه، وسكن الحزن جفنيها بدلاً من بريق فر مع دمعة كبرياء سقطت دون مكابرة.

كان صوت «أنغام» يأتيها محذّراً ومذكراً: (ألقالك حد، لو ضاقت بيك يفتح لك قلب، يبقى لك صحبة وأهل وبيت، يناديك لو انت فى يوم ضليت، ويشوفك لو على الخلق داريت، ويحسك رغم البين والبعد).. وخيالها يلح فى عرض صوت الماضى القريب الذى تهرب منه!صورة مهزوزة للبيت الذى جاءت منه، إنها «مختلفة» لم تقنع بميراث الأهل من «الرضا والاستسلام» وتمرّدت على دور «الزوجة المطيعة» فطلقت فى العشرين وأخذت تأشيرة ذهاب بلا عودة إلى عالم جديد.

استقبلها عالم الشهرة بـ«واقعة تحرش»، كان بطلها رجل قبيح يملك مفاتيح السلطة ويعرض عليها اختصار الطريق الشاق.. فأبت إلا أن تكون «نفسها»: (ظاهرها امرأة مثيرة، وفى باطنها طفلة رجعية تحن إلى حضن أمها).. وهربت مرة أخرى.

لقد ولدت وفى فمها «ملعقة من ذهب»، بريق المال لا يجذبها، إنها «مجذوبة» إلى «دنيا الأساطير».. «الرجل» الذى تبحث عنه أروع من الثروة والسلطة وأقوى من الرغبة حتى فيها.

رجل ربما لم يولد بعد، وربما «وُلد متزوجاً»، صادرته امرأة أخرى، لكنه حلمها الخاص الذى جعل الرجال جميعاً مجرد «كائنات حية» لا تضر ولا تنفع ولا يستحق أحدهم أن تركع له.كانت نصف مجنونة - نصف عاقلة، روحانية إلى أقصى درجات الصوفية، واقعية إلى آخر مراحل الملل.. حزنها يعادل بهجتها بالتساوى.. وربما لو غلب نصفها الآخر لتوازنت حياتها.

إنها «عصية» رغماً عنها، فلم تلتق الفارس الذى يروضها لتخضع، لم يدق قلبها طبول الحرب على النجاح والتحقّق والشهرة، فاستسلمت لحمى الصعود وظهرها منتصب بقوة الاستغناء والاستقلال.عالمها الصاخب المزدحم بالأصدقاء لم يمنحها فرصة «التأمل» جيداً، لتدرك أن موسم الإخصاب فى عمر المرأة قصير، وأن الأمومة لا تقبل التأجيل، وأن الحلم لا يقبل القسمة على اثنين.

كانت ترى «الطفل» كائناً نورانياً لا بد أن تضع ثمرته فى لحظة مقدسة ترفعها إلى مرتبة الصلاة، وأن تلده بوحى نادر لا يهبط إلا على الأنبياء، حتى تحولت أمومتها لمجرد «ضريح» العوانس يتبركن به وتحج إليه كل من تحلم بالأمومة!

أحد الحكماء قال لها يوماً: (امرأة مثلك لا تلد، بل يتم استنساخها).. لكنها بقيت «نسخة وحيدة» لم تتكرّر، وظل رحمها مثل أرض بور لن تنبت مهما ارتوت.حين أحبت واستسلمت، وطغت «الطفلة» على كل ما عداها، لم يكن رجلها جديراً بسذاجتها، كان كذئب نهش ما طاله من لحمها ودمها، وضن عليها بأبوته.

الحب هو كذبتنا البريئة، بطولتنا الوحيدة، طفلنا الذى نحمل به وحدنا ونلده بأنفسنا ونرعاه، ونرضعه «التنازلات» بإرادتنا، وحين يكبر وتتجاوز قامته الطرف الآخر يقطع حبله السرى ويفطم ويتركنا دون وداع.لماذا نمنح أنفسنا للشخص الخطأ؟.. نعطى لمن لا يستحق؟.. نكتشف «القبح» بعد فوات الأوان؟.. نقايض الحقيقة بالوهم ونشترى اليوم بالغد؟!

لو كانت «امرأة عادية» لحملها «رجل ما» على أكتافه، وأنجبت ذكوراً وإناثاً، لو قبلت أن تكون لأى «عابر» بقلبها لامتلكت مفاتيح الجنة (التى هى تحت أقدام الأمهات).. لكنها ليست «جثة» تتناوب على التهامها الطيور الجارحة، فلم يقبل «عرشها» إلا ملك واحد!

من بعيد تأتيها كلمات الإطراء، نظرات غيرة النساء، يحسدنها، لأنها سطرت أيامها ببصمة فريدة وغزلتها بأنامل أرق من ورق الياسمين.. أو بما لأن الحزن يزيدها جمالاً.

وهى تتحسّس جسدها وقد تركته ليالى الوحدة «مراهقاً»، تشعر أخيراً بأنها بحاجة إلى رجل! شرطها الوحيد أن يشعرها بالأمان، أن يمحو من قاموسها مفردات التعاسة والوحدة والحزن والحرمان.. أن يكون «إنساناً».. لتكتشف مجدّداً أن نظرية «ضل حيطة» لم تصمم من أجلها.الآن أدركت أنها ليست نادمة، وأنها عاشقه لعزلتها، لأنها لم تلتق رجلاً يحتويها، فاحتضنت ألمها وضمدت جراحها، ورقصت «رقصة الحياة» على سلم موسيقى تعرفه وحدها.

عادت تنصت لصوت «أنغام» الشجى: (ألقالك حلم من الأحلام.. ما تسيبش سنينك للأوهام).. فأدركت أن حلمها المستحيل كان يحتاج إلى اثنين، ومعادلة «اثنين فى واحد» قد فات أوانها.. فقرّرت أن تكمل الطريق الذى بدأته «وحيدة».

المقال / سحر الجعارة 

الوطن

التعليقات