الحق في الطيران
(فى الجنة: جلا جلا، يا محترم جلا جلا.. كل الأمور متسهلة/ تطلب حواجب نمل، ولا قلوب دِبب، تحضر، بسرعة مذهلة/ ما عليكش إلا بس تفضل تشتهى، تطلب وتطلب فى حاجات لا تنتهى، كله يجاب، ما هى جنة طبعاً يا مهاب.. لكن مفيش غير بس شىء واحد وحيد لو تطلبه، لا يستجاب.. إنك تعوز تخرج من السور الحديد).. هكذا وصفها العبقرى «صلاح جاهين»، إنها «الحرية» بلا أسوار.. غير مشروطة، أو هكذا عقد مقارنة بارعة بين جنة «عصفور» أسير القفص حتى لو كان ذهبياً، وبين طائر حر طليق ليس للزينة.. طائر يمنح نفسه للحياة بكل ما فيها من صدمات، من حرمان وعدم أمان، قد يتساقط ريشه جوعاً أو ألماً أو يبيت ليلته فى العراء.. لكنه ليس وحيداً ولا غريباً، زقزقة العصافير تؤنسه وحفيف الشجر يعده بعش جديد، هذا العالم بصخبه هو لحنه الخاص.. عالمه سماء بلا قضبان وهو لا يطلب إلا «الحق فى الطيران».. يطارد خوفه بنغمة واثقة أنه ليس عبداً لقيد صنعه بنفسه!.
هذه الفكرة على بساطتها تنقلك مباشرة من السور الحديد إلى «متلازمة الكوخ».. فحين وُجد الإنسان، وهو كائن اجتماعى، وجد نفسه -قبل ثلاثة أعوام- أمام جائحة «كورونا»، تحاصره من كل الزوايا، وجد شبح «الموت» يستوطن بين أضلعه، ومشاعر الخوف الهستيرى على مَن يحبه تبدد طاقته.فجأة توقفت الحياة، تلخص وجوده فى عبارة «التباعد الاجتماعى».. أصبح وحيداً فى قلب الزحام، يعانى «رهاب المرض» بينما هو يعلن الشجاعة والتفاؤل.. تبدلت لغته وتبدد إيقاع أيامه، حتى دورته الدموية أصبحت رهينة «أرقام الإصابات والوفيات»!.
تغير «الروتين اليومى»، فإذا بالإنسان ينتقل من شاشة التليفزيون إلى «السوشيال ميديا».. وبعضهم انتقل تماماً ليعيش فى العالم الافتراضى!.. وأخذت الأكواخ تتراص ونحن ندخلها بكامل وعينا وإرادتنا، خصوصاً فى الدول التى فرضت حظر التجول الكلى على سكانها.ثم قالوا لنا: اذهبوا فأنتم الطلقاء، الحياة تعود تدريجياً لطبيعتها.. البعض أصابه (الشلل)، لم يعد قادراً على الحركة، على اتخاذ القرار، وظهر مصطلح (متلازمة الكوخ) ليفسر الحالة التى توصف علمياً بأنها (اضطراب نفسى ينتج عن العزلة الاجتماعية، ويواجه المصابون به صعوبة فى الخروج من المنزل بعد انقضاء السبب وراء المكوث فيه لفترة طويلة).
من أبرز أعراض هذه المتلازمة أنها تجعل الشخص ميالاً للعزلة، ويصاحب ذلك خمول واكتئاب وحزن فى بعض الأحيان، إضافة إلى سرعة الانفعال والقلق، وربما يتطور الأمر إلى الشعور باليأس.وبحسب تقارير إعلامية، فقد ثبت أن أكثر من مليون إيطالى عانى من متلازمة الكوخ بعد تقليص إجراءات العزل المنزلى أثناء جائحة كورونا، بحسب الجمعية الإيطالية للطب النفسى، كما أنها انتشرت فى إسبانيا وفى الصين، وفى إحدى الدول العربية أيضاً.. وقد أعلنت الفنانة الإماراتية الشابة بلقيس - آنذاك- أنها خلال التزامها بالإجراءات الاحترازية، وملازمة المنزل، فى ظل تفشى فيروس «كورونا» المستجد، هاجمها مرض يحمل اسم «الكوخ» أو «حمى المقصورة»، نتيجة تعرضها للإحباط، حتى أصبحت لا ترغب فى النظر لنفسها فى المرآة.. ويبدو أن البعض يفضّل حتى الآن ألا ينظر فى المرآة.
يرى الأطباء النفسيون أن العلاج الأفضل لـ(متلازمة الكوخ) يتمثل فى ضرورة التفاعل مع الحياة من جديد.. لكن الحقيقة أن ما حدث للإنسان هو جمود فى الطموح وتصلب فى الأحلام، فعادة يحتاج الفرد إلى (حافز) يربطه بالمجتمع المحيط به ويدفعه للأمام.. وحين يتعرض الإنسان لزلزال عنيف، كما حدث فى المغرب، أو فيضان يطيح ببلدة كاملة بأهلها، كما حدث فى ليبيا، يختبئ الإنسان داخل كوخه الخاص.. يحدث له انسداد فى أفق الغد ويغرق الإنسان فى تساؤلات بلا أجوبة يتحول إلى كائن أقرب ما يكون إلى الجماد.. إنه يخاف من كل شىء!.يخاف أن يحب خشية الإحساس بالفقد، أن يتفاعل فيصبح رقماً فى أعداد المصابين، يعف عن الأكل ثم عن الكلام حتى يبتلعه الصمت فى فراغ هائل.
المشاعر والأحاسيس وحتى الغرائز ليست (واجبات) مفروضة علينا، بل على العكس جميعها تجسد إرادتنا، وتحدد المسافة بيننا وبين الأشخاص والأشياء.صحيح أن البعض يتعامل مع الحياة بشكل عفوى، ويتمرد على كل المخاوف، لكن هذا فى حد ذاته يؤكد أننا نقبل على الحياة أو نجافيها بقرار شخصى.. وأننا قد نحطم كل الأسوار والأغلال مقابل لحظة نتحرر فيها من (وسواس الموت)، وأن نمزق كل ما أملوه علينا من تحذيرات وتنبيهات مقابل (لحظة بلا خوف).. لأنها تساوى عمراً (خارج الكوخ).
المقال / سحر الجعارة
الوطن