عصر التشكيك العميق

إنه عصر التشكيك العميق، وليس فقط التزييف العميق. انتقلنا من تزييف الحقائق والفيديوهات والصور والأخبار العميق إلى التشكيك الأكثر عمقاً.سأحاول جاهدة أن أبقى بعيدة عن نظريات المؤامرة، حيث كل ما يلحق بنا من أزمات وكوارث ومصائب مؤامرة حاكها آخرون للإيقاع بنا، وكل ما يصيبنا من انتصارات وإنجازات ومكتسبات هي من صنع أيادينا وأدمغتنا، لكن جزءاً مما يجري حالياً على إيقاع حرب غزة هو جهود تشكيك عميقة وغير مسبوقة.

وليته كان تشكيكاً في العدو أو أبناء عم العدو أو أصدقائه، وإلا كان التشكيك مفهوماً وحاملاً قدراً من المنطق.

لكن التشكيك الدائرة رحاه والذي يبذل الكثيرون فيه جهوداً مضنية، ويخصصون له وقتاً غير قليل، هو تشكيك في بعضنا البعض.

اختلاف الآراء طبيعي، وتراوح المواقف منطقي، لكن أن يتم تصنيف موقف أحدهم إنه خائن وعميل لمجرد أن رؤيته للأحداث تختلف، أو لأنه يرى ما يتم تدبيره لمصر وأهلها أيضاً ضمن ما يرى من تفاصيل الكارثة المروعة التي تجري على مرأي ومسمع من العالم على الهواء مباشرة.

وعلى الهواء مباشرة أيضاً، تابعنا تفتيش الحرب في حضور الرئيس السيسي، وهو الإجراء الذي يتبع للتأكد من استعداد القوات لإتمام عمليات عسكرية بشكل عام. لكن في مثل هذه الظروف والأحوال التي نعيشها، يتحول العام إلى خاص.

وتبدو الرسالة واضحة لا لبس فيها ولا يخطئها إلا كل من اتخذ قرار تجاهل الشأن المصري، أو من أغرق نفسه في غرف مغلقة لا يرى إلا ما يمده به سادة الشبكة العنكبوتية وأمراء السوشيال ميديا.

حين يشهد رئيس الجمهورية عرضاً عسكرياً في هذا التوقيت، ويتابع إجراءات وتفاصيل رفع الكفاءة القتالية، وتُستَعرض أمامه علناً أحدث نظم التسليح، وقدرتها على القيام بمهامها القتالية و"حماية حدودنا في الاتجاه الاستراتيجي"، فإن هذا يعني الكثير لنا وللجميع.

هي رسالة طمأنة لنا، وكذلك اطلاعنا على جانب مما لدينا، لكنها أيضاً تعني أن احتمالات عدة تحوم في أفق حرب غزة.

توسع نطاق الصراع أمر وارد ولا يمكن التنبؤ بها بدقة، ويكفي أن عملية "طوفان الأقصى" يوم 7 الجاري قلبت الدنيا رأساً على عقب في سويعات معدودة، بغض النظر عمن يعتبرها أعظم أعمال المقاومة وقراراً بفتح حلبة الصراع على مصراعيها وإجبار دول الجوار على الانخراط بغض النظر عن أولوياتها أو ترتيباتها وذلك لنصرة القضية وتحرير الأقصى وردع الاحتلال، أو من يراها فعلاً حماسياً متهوراً بحسابات لم تضع الملايين من أهل غزة في الحسبان، أو وضعتهم في الحسبان، ولكن اعتبرتهم أحياء عند ربهم يرزقون هم ومن حولهم.

غاية القول أن القوس يبقى مفتوحاً أمام مآلات ما يجري الآن. وبهذه المناسبة، فإن التفكير في سيناريوهات ما يجري وما ستسفر عنه الأحداث الدامية لا يعني تخلياً عن أهل غزة، أو نقصاً في الإنسانية، أو شحاً في التضامن، أو تجاهلاً للقضية الفلسطينية التي هي قضية كل حر، وليس كل عربي.

أما أن يختار البعض الغرق التام فقط في شراء أعلام فلسطين الحبيبة، وارتداء كوفية (أي كوفية)، والامتناع عن شرب القهوة وأكل البرجر والتسوق من محلات معينة تفتح بيوت ملايين المصريين نصرة لفكرة "المقاطعة"، والامتناع التام عن التفكير فيما هو قادم، فهو حرية شخصية، لكنه في الوقت نفسه – في رأيي الشخصي- لا يسمن ولا يغني من جوع.

ومكونات الجوع هنا هي: غزة، وأهل غزة، والقضية الفلسطينية، ومصر، وموقف مصر وأهلها، ومصير المنطقة برمتها. ههي أفعال تعكس الغضب الشديد، وتعني تضامناً وإنسانية جمتين، لكن هل هي مفيدة حقاً فيما يجري؟ هذا سؤال وليس تقريراً.

المصيبة أن طرح مثل هذا السؤال يعرض سائله لتشكيك في إنسانيته ونخوته وعواطفه، بل ويمتد أحياناً لتشكيك في انتماءاته وأيدولوجياته وقائمة التشكيكات لا تنتهي.وفي عصر ال"سوشيال ميديا"، وفي زمن الأزمات والكوارث الكبرى، يظن البعض أنه كلما علا الصوت واشتعل حماس الغضب الافتراضي وتواترت تدوينات وتغريدات التنظير السياسي والعسكري والاستراتيجي وحازت "لايكات" وجرى تداولها مئات أو آلاف أو ملايين المرات، فهذا يعني أن السوشيال ميديا قادرة على تحرير القدس، والتخلص من المعتدي، وتحقيق "يوتوبيا" الحق والخير والجمال على أثير المنصات نفسها التي أظهرت تحيزاً كاملاً ضد القضية الأصلية في هذه الكارثة الدائرة رحاها.

نضال ال"سوشيال ميديا" مهم، وقادر على تغيير الرأي العام فعلاً. ولكن أن نناضل من أجل التشكيك في بعضنا البعض، أو ادعاء القدرة على التخطيط الاستراتيجي والتكتيك العسكري، أو التشكيك في بعضنا البعض، فهذا قمة عدم النضال.

المقال / امينة خيرى 

الوطن

التعليقات