الفنون والهوية

الهوية هى الإجابة عن السؤال ماهو؟ فهى تعنى معرفة الخصائص التى تمكننى من تمييز أى شىء عن غيره من الأشياء.

وعندما ننقلها إلى ضمير المتكلم فهى تعنى القدرة على أن أقول من أنا.

ببساطة أن أعرف نفسى وأن أعرّف نفسى كذلك للآخرين.

وهذه أمور تتم بشكل عفوى وتلقائى لا تحتاج إلى تدخل الإرادة ولا إلى التخطيط المسبق. هذا في حالة الهوية الشخصية أما في حالة الهوية الجماعية: من نحن؟ فالأمر مختلف. للشعوب خصائص.

ونحن فى أحاديثنا العابرة نذكر روح الجدية عند الألمان ودم الإنجليز البارد وميل الفرنسيين إلى التأنق.  هذه سمات تتشكل أيضاً بصورة لا إرادية عبر تاريخ طويل وتشمل جوانب سلبية وجوانب إيجابية، فلا يحق أن تكون هماَ أو شاغلاً لأنه لا دخل لنا فيها.

ورغم ذلك عندما يطرح سؤال الهوية لدى شعب من الشعوب يصبح مساراً للجدل والتناول الإنفعالى والخلافات المحتدة.

وأعتقد أن ذلك يرجع إلى أن هناك تصورين عن الهوية الجماعية. التصور الأول يعتبر الهوية جوهراً قد تشكل فى الماضى ومهمتنا الدفاع عنه وحمايته من الضياع وأنصار هذا الرأى يكونون فى العادة من المحافظين والرجعيين ويخشون دائماَ من  كل محاولات التجديد.

أما الرأى الثانى فيرى أن الهوية مهمة لأنها تسمح للشعب بأن تكون له سمات مميزة لكنها دائماً مشروع مفتوح على المستقبل لأن أعز ما يملكه أى شعب هو تطلعاته وأحلامه وهذه لم تتحقق بعد.

وهذا ما جعل قضية الهوية لا تطرح نفسها إلا عندما يكون الشعب فى حيرة لا يعرف أى طريق سيسلكه نحو المستقبل.

ولا سبيل إلى تجاوز هذه الأزمة إلا بالانفتاح على ثقافات الآخرين فهذا هو ما يسمح بقبول التجديد والتطور.

وسنأخذ مثالاَ من الفنون يعبر عن الآلية التى يتم بها هذا التطور.

فى مصر حتى بداية القرن التاسع عشر لم يكن فن الرواية معروفاً.

صحيح أن تاريخنا الأدبى مليء بصور بديعة من السرد مثل ألف ليلة وليلة وحكايات الشطار والعيارين ولكن الرواية بمعناها الحديث دخلت مع ترجمة رواية روبنسون كروزو فى قبرص فى عشرينيات القرن التاسع عشر ثم ترجمة الطهطاوى  رواية تليماك. بدأ إنشاء دور النشر الخاصة التى أصبحت تجنى مكاسب كبيرة من بيع الروايات المترجمة التى أقبل عليها الشباب إقبالاً لافتاً وانبرى أنصار الحفاظ على الهوية فى التحذير من خطرها وصدرت فتاوى تعتبرها خطوة من خطوات الشيطان وتدخل الإمام محمد عبده ليقول بأنه لا خوف على شبابنا من الولع بالروايات.

كذلك الحال مع فن المسرح . فى تاريخنا كانت هناك فنون للعرض مثل الحاوى والسيرك  خيال الظل. أما المسرحيات التى تمثل نوعاً أدبياً مستقلاً مثل مسرحيات شكسبير وموليير فقد عرفها الجمهور فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر. وهاجم أنصار الهوية فن المسرح قائلين أن المترجمين القدماء نقلوا عن اليونان العلم والفلسفة ولم يترجموا المسرحيات لأنها لا تلائم ذائقة العرب. ولكن الجمهور أقبل على المسرحيات التى تم تمصيرها مثل المسرحيات الكوميدية فى مسرح الريحانى والمسرحيات التراجيدية فى مسرح يوسف وهبى إلى جانب عشرات الفرق الأخرى التى عرفت إزدهاراً كبيراً.

الشعر العربى التقليدى عظيم ورفيع المكانة فى تاريخ الأدب العالمى لكنه ظل يتميز بسمتين: وحدة البحر ووحدة القافية. وكان من الصعب الإلتزام بهذين القيدين عند ترجمة قصائد الشعراء الأجانب فظهر نوع جديد من الشعر احتفى به الشعراء الشباب وأطلق عليه الشعر الحر وهنا أيضاً قام أنصار الهوية بالهجوم على هذا الشعر الجديد لأنه يعد فى نظرهم ضياع لهوية الأمة. وانتهى الأمر بأن فرض الشعر الجديد نفسه.

لو حاولنا تتبع مسار توطين هذه الأنواع فى ثقافتنا المعاصرة لوجدنا أنها تبدأ أولاً بالتلقى والإعجاب ثم الإستيعاب ومحاولات التقليد إلى أن يتم التوصل إلى إبداع خاص متفرد، فظهر لدينا نجيب محفوظ فى فن الرواية وتوفيق الحكيم فى المسرح وصلاح عبد الصبور وأدونيس ودرويش فى الشعر الحر وغيرهم كثيرون.  كذلك كان الحال مع الموسيقى والفنون التشكيلية.

ترى ماذا كان حالنا لو حرمنا أنفسنا من كل هذا الابداع والجمال باسم الحفاظ على الهوية.  أن إنفتاحنا على هذا الجديد الذى جاء يطرق أبوابنا ولم نكن نعرفه فى تاريخنا أدى فى نهاية المطاف إلى إثراء هويتنا وليس إلى إفقارها. هذا الأمر ينطبق أيضاً على كافة المجالات الأخرى مثل الفكر والإقتصاد والسياسة والبحث العلمى.

** عن الأهرام..

 

التعليقات