معضلات العمران البشرى «2»

خلصنا من المقال السابق إلى أن الذات الفردية تتشكل فى كنف سياق اجتماعى يشكلها ويضفى عليها سمتاً اجتماعياً وأخلاقياً معيناً، وأن أى شكل من تشكيل المجتمع أو ما نطلق عليه العمران البشرى، لا يخلو من معضلات اجتماعية. ونتجه فى هذا المقال إلى النظر فى الطريقة التى تشكل بها المجتمع المصرى، لكى نكتشف طبيعة تركيبه الاجتماعى والثقافى، وطبيعة المعضلات التى عنت له عبر مسيرته. ونؤكد بادئ ذى بدء أن عمليات تكوين المجتمعات فى الزمن الحديث لم تكن عمليات مستقلة، فعملية التغير تجرى فى نطاق تفاعلات خارجية وأخرى داخلية، ويجب أن نضع كل هذه العوامل فى الاعتبار، ونحن ننظر إلى العمليات التى شكلت جملة الحياة الاجتماعية والثقافية.

لم يكن المحرك الأول فى التغير عوامل متصلة بتطور نظم الإنتاج، أو نظم العمل السياسى، وإنما خضع التغير لما يمكن أن نطلق عليه عمليات التحديث القسرى، وهى عمليات تقودها جماعات من النخب الداخلية أو الاستعمارية أو كليهما، يعتمد ذلك على المرحلة التاريخية. ونقصد بعملية التحديث القسرى، فرض صور تحديثية فى المجال الاقتصادى أو الخدمى أو العمرانى، لا تنتج عن تطور طبيعى داخلى، بل تأتى وفق إرادة النُخب. فكل نخبة تفرض اختياراتها وفقاً لقناعاتها الفكرية، وتعمل من أجل مصلحة الوطن، ولقد بذلت هذه النخب جهودا وطنية كبيرة فى ذلك. وارتبطت عملية التحديث القسرى بعملية أخرى نطلق عليها الانتقائية غير المنظمة حيث يتحول المجتمع الغربى الحديث إلى نموذج، أو مخزن للانتقاء من ثقافته ومنتجاته التكنولوجية والفكرية. صحيح أن كثيراً من عناصر هذه الثقافة تنتقل بشكل تلقائى نتيجة الاتصال لكن جل التغيرات المتصلة بالتحديث القسرى قد تمت على اختيارات شخصية فى تحديد الأولويات، وفى درجة الحماس الوطنى الذى يلازم النخب الوطنية فى المجتمعات النامية. ويدخل فى هذه الانتقائية ما أدخله الاستعمار من ثقافة ونظم، فهى تخضع لنفس المبدأ، حيث يختار المستعمرون دائماً العمليات التحديثية التى تحقق مصالحهم مثل تطوير مشروعات الرى أو تشييد السكك الحديدية لنقل المحاصيل الزراعية.

وترتبط عمليات التحديث القسرى والانتقائية باختيارات النخب التى تعمل من أعلى سواء من الجانب الاستعمارى أو الوطني. ولكن إذا ما انتقلنا إلى المجتمع نفسه فإننا نجد أنه يستجيب بسرعة إلى عمليات التحديث وتحدث به تغيرات داخلية تترك آثارها على مسار التغير. ونستطيع أن نشير هنا إلى عمليتين: الأولى التزايد السكانى السريع، وهو تزايد لم يكن مصحوباً بتغير نوعى فى خصائص السكان؛ فالسكان يتزايدون مثلاً دون أن تتغير معدلات الأمية، ومثل ذلك يقال عن معدلات الفقر. وتواكب النمو السكانى السريع مع النمط العشوائى للمدن والقرى. وخضعت المدن المصرية، وبعض قراها إلى عمليات تحضر عشوائى نتيجة البناء غير المخطط، والاختيارات الشخصية العشوائية فى أنماط البناء. والاتساع الشديد للمناطق العشوائية ومناطق وضع اليد فى المدن، وعدم التجانس فى وسائل المواصلات داخل المدينة، وخضوع معظم هذه الوسائل للاختيارات الشخصية والاستثمارات الشخصية الزهيدة.

أشرنا حتى الآن إلى نوعين من عمليات التغير، عمليتان كبيرتان تتصلان بالتدخلات الكبرى من أعلى، وعمليتان تتصلان بأهم مسارات التغير فى المجتمع الذى يستجيب للعمليات الكبرى، ويتبقى نوع ثالث وهى العمليات الناتجة عن السلوكيات الفردية للبشر، والتى يترتب عليها تغيرات اجتماعية. نشير فى هذا الصدد إلى عمليتين فقط. الأولى التعدى على أراضى الدولة وعلى الممتلكات العامة. وهذا سلوك فردى محض، ولكنه يخلق عشوائيته الخاصة. أما العملية الثانية فهى ما أطلق عليه أصف بيات اللاحركة، أو الزحف البطىء لاستملاك أرصفة الشوارع فى المدن، وربما الشوارع نفسها من قبل الباعة الجائلين، من الفائض السكانى الذى يبحث عن سد رمقه عبر مشروع صغير للتجارة.

وتترتب على كل هذه العمليات نتائج تترك تأثيرات كبيرة على الطريقة التى يتشكل بها العمران البشري. وتتكون هذه التأثيرات فى عدد من التناقضات التى يمكن أن نشير إلى بعضها. أولها هذا التناقض الكبير فى التطور التدريجى، الذى لم يكن قط منتظماً، بل هو يتشكل عبر نماذج متراصة بجانب بعضها البعض، لا يلغى بعضها بعضاً، ولا تتعايش مع بعضها بشكل منسجم، بل بشكل قسري. لقد شهد المجتمع نظماً سياسية واقتصادية متعددة ومتناقضة، وترك كل نظام بصمته ثم غادر، وهكذا تحول التاريخ إلى موزاييك لا انسجام فيه، ولا تراكم يخلق له ذاكرة قوية. ثمة تراكم تاريخى، ولكنه تراكم لتناقضات مختلفة. لم يتطور المجتمع هنا فى ضوء قانون للتباين والتكامل كما يذهب أصحاب النظرية الوظيفية، ولم يتحول من المجتمع الآلى إلى العضوى كما يذهب دوركايم، ولكنه تحول إلى نمط من التراكم الثنائى الذى يحول عمليات التباين إلى عمليات تعدد غير منتظم، وغير متجانس، ولا يحكمه ناظم التكامل والترابط، بل يحكمه ناظم القوة المركزية.

وإذا انتقلنا إلى نتائج العمليات الداخلية المرتبطة بالسكان ونمط التحضر، فسوف نجد أنها أدت إلى صمود كبير للتقاليد فى وجه الحداثة، وبدأ المجتمع وكأنه يحتفى بالتقليد أكثر من احتفائه بالحديث، فالجماعات الحاملة للثقافة التقليدية سيطرت على المدينة من أطرافها، وسيطرت على شوارع تسكنها الطبقة الوسطى، فبدت الحياة وكأنها تقلد الحداثة، وتفتح ذراعيها لكل ما هو تقليدى (حيث يتسع الفضاء لنشر دعاوى التطرف الديني). وفضلاً عن ذلك فقد تحولت المدن إلى كتل خرسانية صامتة يشوبها قدر كبير من عدم التجانس وهجر الجمال، والمعاناة الشديدة من التناقض بين حجم الطلب على الخدمات وإتاحتها.

وأخيراً فإن العمليات المرتبطة بالسلوك الفردى غير المنظم وغير القانونى قد زادت من هذه التناقضات، وحقنت فى جسد البناء الاجتماعى قناعات خاطئة تحولت فى سلوك الناس اليومى إلى عُرف، أقلها احتلال واستملاك الفضاءات العمومية، وتحويلها أحياناً إلى أماكن للفوضى والانحراف. ولاشك أن كل ذلك يخلق مشكلات عامة ننظر فيها المقال القادم.

** عن الأهرام..

 

 

التعليقات