الوعى بين مُكنة الفعل..ومُكنة المعرفة
يكثر الحديث عن الوعى دون أن نتوخى الدقة فى تعريفه. والحقيقة أن تعريف الوعى على درجة كبيرة من التعقيد، كما أن تعريفه يختلف باختلاف التوجه النظرى والموقف السياسي. وتتراوح هذه التعريفات بين موقفين: ينظر الأول إلى الوعى فى ضوء ما يملكه الفرد من معارف، وما يكشف عن توجهات إيجابية تدفعه إلى الانخراط الإيجابى فى الحياة ويفرق هذا الموقف بين أفراد أكثر وعياً وآخرين أقل وعياً. وينظر الثانى إلى الوعى فى ارتباطه بالطبقة الاجتماعية حيث يصبح الوعى لصيقاً بحالة الوجود الذى تعيشه جماعة محددة من الناس؛ وتتم التفرقة فى هذا الموقف الثانى بين الوعى الحقيقى والوعى الزائف. ودون الدخول فى تفصيلات نظرية، فإن التحليل النهائى لقضية الوعى، وحتى الخطاب العادى حوله فى الحياة اليومية، يفترض أن هناك بشراً أكثر وعياً من بشر آخرين. ومن هنا جاءت دعوات بناء الإنسان وإعادة تشكيله لتحويل حالة وعيه لكى يصبح وعياً أكثر إيجابية. وأعتقد أننا بحاجة إلى أن نبنى تصوراً أكثر وضوحاً لمفهوم الوعى، ليس فقط لأن الاتجاهين اللذين أشرنا إليهما يتعرضان لكثير من الانتقادات، ويواجهان معضلات كثيرة عندما نأخذ المفهوم من الإطار النظرى إلى الواقع العملى، ليس فقط لهذا الأمر وإنما أيضاً بسبب الارتباطات الإيدلوجية التى تلحق بكل موقف، والتى تجعله موقفاً متحيزاً بالضرورة. وأكثر من ذلك فإننا بحاجة إلى فهم يقربنا من الواقع، ويمكننا من أن نربط الوعى بالأفعال الملموسة على الأرض. وسوف أكرس هذا الحديث لطرح أفكارى حول رؤية جديدة ومختلفة لمفهوم الوعي.
سوف أبدأ بمفهوم المُكنة، وقد عرفه عالم الاجتماع أنطونى جيدنز (1938) بأنه القدرة على الفعل المختلف. وتحمل هذه العبارة معانى كثيرة، منها أن الفعل المتمكن هو الفعل الذى لا يساير ما هو شائع من سلوك، وبناء عليه فإنه يقدم مساراً مختلفاً عن المسارات المعهودة، وهو فعل نابع من الذات، قادر على أن يحقق لصاحبه وضعاً مختلفاً بين أضرابه. وبهذا المعنى تصبح المُكنة أساساً للتكوين الاجتماعى الصحيح. فلاشك أن جماع البشر فى المجتمع لا يتساوون فى قدراتهم على الفعل المتمكن، ولذلك يصح أن نقول أنه كلما ازدادت مساحة الفعل الذى يحمل فى طياته مُكنة كلما أتسع نطاق الفعل القادر على التأثير فى مجريات الحياة، والقادر على أن يأتى بما هو جديد، بما فى ذلك القدرات الإبداعية والابتكارية فى السلوك.
ويمكن القول أن المُكنة على هذا النحو هى بداية لتكوين الوعى، الذى يمكن أن يعرف هنا على أنه الفعل الذى لا يساير الأفعال الساكنة المبنية للمجهول، فهو فعل نشط، قادر على أن يؤثر، وأن يكون له دور فاعل. ولكن المُكنة فى أداء الفعل لابد لها من قاعدة معرفية واسعة. فالإنسان لا يتمكن من تلقاء نفسه، ولكنه يتمكن من خلال ما يبنى فى عقله من معارف. وهنا ننتقل إلى بُعد مهم فى بناء الوعى وهو يتعلق بمُكنة المعرفة. ولا تتعلق مُكنة المعرفة بحجم المعلومات التى يمتلكها الفرد، وإنما تمتد للرغبة فى المعرفة والقدرة على اكتسابها. إن المعرفة لا تشكل قط كمية مخزونة محددة يلم بها الإنسان فى لحظات زمنية محددة ثم ينتهى الأمر، ولكنها مخزون متجدد. بل أن معارف العصر تتجدد على نحو سريع ولا يكون فى مقدور الإنسان اللحاق بمجملها بحال من الأحوال. ولذلك فإن الأصل فى مُكنة المعرفة أن يكون لدى المرء الاستعداد الكامل لأن يتابع المعارف الجديدة بقدر ما يستطيع، وأن يلم بقدر من المعلومات عن السياق الذى يعيش فيه. ولا يجب أن نبالغ هنا بالقول بأن المطلوب فى مُكنة المعرفة أن يلم الإنسان بمعارف شتى متعمقة. ذلك هو المطلوب من أصحاب المعارف المتخصصة من أهل المهن. ولكن الإنسان العادى تتحدد مكنته المعرفية بالمعارف العادية حول السياق الذى يعيش فيه. نتحدث هنا عن حد أدنى من المعارف التاريخية والجغرافية والقانونية، وحد أدنى من الالمام بأخبار المجتمع وإقليمه، وجانب من الأخبار العالمية، والمعرفة بمنجزات الوطن وتطلعاته، وفوق كل هذا معرفة الأسس العامة لقوانين العمران البشرى من التفاعل مع الآخرين فى إطار من الثقة والاحترام، وعدم الركون إلى أى صورة من صور الكراهية أو النبذ والاستبعاد.
والحقيقة أن مُكنة الفعل ومُكنة المعرفة تؤديان – فى حال حضورهما القوى - إلى بناء عقلى أكثر رشداً، وإلى شحذ الوجدان المواطنى، فتتخلق أشكال جديدة من المُكنة داخل البناء النفسى والعقلى للفرد. نتحدث هنا عن شكلين من هذه المُكنة، مُكنة الإرادة، ومُكنة الهمة. ورغم أن الإرادة والهمة قد يمكن النظر إليهما على أنهما حافزان يسبقان الفعل والمعرفة، أو كما يقول الفلاسفة فإن الوجود هو إرادة قبل أن يكون تمثلاً فى الواقع (شوبنهاور 1788 - 1860)، أو هو فكرة مثالية قبل أن يكون تجسيداً مادياً (كانط 1724-1804) ولكن هذه نظرة مثالية قد نتفق أو نختلف معها، فالوجود محايث للفكرة، والفكرة محايثة للوجود، كلاهما يتشكل على نحو دائم، لا نعرف أيهما يؤطر للآخر (وقد يحتاج هذا الموضوع إلى وقفة فى مقال آخر)، وحسبنا هنا أن نؤكد أن المُكنة الوجودية والمعرفية لا تكتمل إلا بإرادة قوية يصنعها الهدف من الحياة. فإذا ما سأل الإنسان نفسه: لماذا يعيش، ولأى هدف يسعى؟ فإنه يكون على أعتاب بزوغ الإرادة التى تمكنه من تحقيق هذا الهدف. وتظل الإرادة فكرة إلى أن تظهر الهمة التى تدفع إلى التحقق الوجودى فى العالم. إن كلا من الإرادة والهمة هنا يشحذان الفعل فيندفع إلى مزيد من «مُكنة الفعل»، ولكن مزيداً من تلك الأخيرة، خاصة فى حالة نجاح الفعل وازدهاره، يؤدى إلى مزيد من شحذ الإرادة والهمة، وتكون النتيجة: مُكنة وجودية لمواطن نشط وعلى درجة كبيرة من الوعى.
** عن الأهرام..