صناعة التلاعب بالوعي
«من أين أبدأ؟»، هو حوار مع الذات قد يدفع كل من يقرأ هذا المقال ليعود إلى نفسه ليعرفها أكثر، ويضع نقاطًا فوق حروف؛ فتتضح معانٍ، وترتسم لوحةٌ أكثر تَكامُلًا؛ فلا شىء يأتى من لا شىء، وكل حَدَثٍ فى تاريخنا منذ النشأة له بصمة على «مَن أنتَ؟»، و«لماذا أنتَ من أنت؟» وكيف خُلق وعيك بمجتمعك الصغير والكبير، أو وعيك بكوكبك أو الكون أو الأكوان الموازية إذا اتسعت مجالات معرفتك.
أنت مجموعة من القيم والأفكار والممارسات التى تترجمها كينونتك والمجتمع المحيط بك إلى صورة ذهنية لك.
يعتبر الوعى حالة عقلية يتم من خلالها إدراك الواقع والحقائق التى تجرى من حولنا، وذلك عن طريق اتصال الإنسان مع المحيط الذى يعيش فيه، واحتكاكه به. والوعى ينضج تدريجيًا بإدراك كل ما حول الإنسان من موجودات من خلال منافذ الوعى التى تتمثل فى حواسه التى تُنقل إلى ذهنه فيُترجمها ويُركبها ويُدرك.
وعي عالمي يُعاد تشكيله
والوعى قد يكون جزئيًا، وذلك عندما تكون الأفكار والمفاهيم مقصورة على جانب أو ناحية معينة وغير شاملة لكل النواحى والجوانب والمستويات المترابطة، والتى تتأثر وتؤثر فى بعضها البعض فى عملية تطور الحياة.
ووعى كل منا يرسم حاضره ومستقبله، ووعينا الجمعى قد يفعل نفس الشىء لكل البشرية..
أنا مثلًا أعى أهمية وأولوية التعليم والمعرفة والرعاية الصحية للمواطنين.. وبمرور الزمن وتراكم الخبرات والتعمق، أعدت تعريفها كحقوق وليست خدمات، فتغيرت نظرتى السياسية بوعى متجدد، وأصبحت أجاهد فى أن الحصول على الحق ليس مرتبطًا بقدرة المواطن على سداد تكلفته، بل بقدرة المجتمع كله على تمويله، بحيث لا يحرم منه تحت أى ظروف أى طفل أو شاب.
أعتقد أنه على كل قارئ أن يعرف التركيبة النفسية والذهنية لنفسه ولكل من يقرأ له ويستمع إليه، وهل يربط الأفكار والمبادئ التى يتحدث عنها نسيجٌ ما؟ ولو كان، فما هى ركائزه التى يُبنى عليها تناسقه؟
قال لى صديقٌ: «ولماذا، ومن أين أتَت فكرة الحوارات مع الحالمين بالغد؟ وكيف تَوهَّج وجدانُك وزاد إيمانك المستدام بقدرة الشباب على الإبداع والابتكار رغم ما يظهر فى المجتمع من عدم وعى بذلك!
كلُّها تساؤلات لم أُفكِّر فى صياغة الإجابة عليها، إلَّا بعد أسئلة الشباب، ووجدتُ أن كتابة هذا المقال قد يكون مُناسِبًا لتبرير دوافع وتركيبة مجتمعنا كأفراد وكمجموع، ووعى كل منا بحقيقة من يتحكمون فى حياتنا، سياسيًا وثقافيًا ومن نقرأ ونستمع لهم.
يجب أن نعى أن «الفكرة» حين يأتى أوان خروجها للنور، تصبح قوة جبارة، والعقل الواعى هو القادر على احترام الفكرة، حتى ولو لم يؤمن بها.
يقول الأستاذ العقاد: إننا عندما نربط الأفكار بالأشخاص نَحرِم أنفسنا من الفكرة الجيدة حين تأتى من الضِّدِّ، ونتورَّط فى الفكرة السخيفة طالما جاءت من صديق.
ووعينا بالتاريخ يقول إن صاحب الفكرة الجديدة قد يُعتبر مُجرِمًا فى إطار ثقافى مُتزمِّت، حتى يُكتب لفكرته النجاح فيصبح للفكرة ألف أب.
ونعى الآن قول ابن رشد: «إن الأفكار لها أجنحة، ولا يمكن كبح جماح انتشارها حتى لو أحرقنا الكُتُب التى احتوتها، أو قَتَلنا الإنسان الذى ابتكرها».
على العموم، فإننى وجدتُ أننى قد لا أقتنع بفكرة، ولكنى لا أخاصم المفكِّر، وأعجبنى قول جاليليو: «من السَّهل أن تفهم أى حقيقة بعد اكتشافها، لكن الفكرة فى اكتشافها»، وقد يموت شخصٌ، وقد تنهض الأُمَم أو تتقوَّض، لكن الفكرة تستمرُّ فى الحياة؛ فالأفكار لا تنتهى صلاحيتها إن كانت تستطيع مواجهة الثوابت التى يرتاح لتصديقها العامة وتصبح جزءًا من وعيهم الجمعى.
وعلينا أن نفهم أنه يصبح للفكرة قوة عندما تستولى على وجدان الجماهير، أو يفرضها البعض بالتكرار فى أذهان الجموع.. ولقد أصبحت هناك علوم فى كيفية فِعل ذلك فى العصر الحديث، وخلق حقائق ليس لها برهان، قد تنتشر وليس فيها صفات الصلاحية.
عندما أنظر إلى العالم حولى أخشى ما أخشاه هو التلاعب بوعينا وأفكارنا. الآن أرى وأدرك أن الوعى قد يصبح مصنوعًا من الذين يملكون التقنيات على خلق ما هو ليس مخلوقًا أو موجودًا، وجعله حقيقة فى وجدان الشعوب، بل ويرهبون كل من يشك أو يفكر بشكل مخالف. إنها صناعة وعى مختلق، وباستقراره ودوام تأكيده، يبدأ الجمع فى التصديق، بل تجد بعد زمن استعداد الشعوب بالتضحية برفاهيتها بل بحياة أفرادها من أجل قضية خُلقت وأصبحت تمثل وعيًا جمعيًا.
إن حرب روسيا وأوكرانيا وحرب إسرائيل ورغبتها فى إبادة الشعب الفلسطينى وحرب إسرائيل وإيران، وقبل ذلك غزو العراق، وبعدها وصول الشرع إلى كرسى رئاسة سوريا، وموقف الغرب متعدد المعايير العنصرى بشدة المؤيد لذلك ينبئنا بأن حكومات أوروبا وأمريكا أكثر تطرفًا وأقل إنسانية مما كنا نظن وبلا مصداقية حاضرًا وتاريخيًا وغالبًا مستقبلًا.
ما يحدث بين البشر ووعيهم بما يحدث حولهم، سواء بتصديق ادعاءات سياسية، ترسم وعيًا زائفًا فى العقول وتقلب الصديق عدوًا والجانى ضحية، اعتمادًا أنه بعد جيلين من خلق وعى جمعى مصنوع تضيع حقائق كثيرة ونعيش فى وعى زائف خلقه من يملك الأدوات ومن يرسم السيناريوهات، ومن عنده قدرة التحكم فى الإعلام والسوشيال ميديا.
إنه وعى عرائس المسرح الذى يصنعه من يحرك الخيوط التى تحكى قصة وجودهم على هذا المسرح.
السؤال هو: هل تعى من أنت ومن أنا؟ هل نحن عرائس على مسرح الحياة على المستوى الشخصى والوطنى والعالمى، أم نستطيع يومًا أن نحرك الخيوط؟
إنه العلم وتحديد القيم التى نريدها حقًا والأنسنة فى مقابل الرقمنة التى من الممكن أن تتملكنا بلا روح، واستخدام تقنيات العلم لخلق وعى مصنوع يصبح حقيقة لا تحتاج لبرهان.
