تستقيم الشرطة يستقيم الوطن

يكمن الدور البالغ الأهمية لأجهزة الشرطة في حماية الفرد والمجتمع والدولة من الجرائم والبحث عن أدلة ارتكابها والكشف عن مرتكبيها والقبض عليهم وتقديمهم للنيابة وتنفيذ أحكام ردعهم وعقابهم أو إعادة تأهيلهم. ولكي يكون هذا الدور فاعلا ومقبولا، فإنه يصبح لزاما على العاملين بها التحلي بأعلى درجات الاستقامة. ويخطئ من يظن أن الاستقامة حكرا على طاعة تعاليم الإسلام، فالاستقامة هي أحد أهم السلوكيات التي تهتم بها المجتمعات الغربية عند تقييمهم لكل من في العمل العام وخاصة القائمين على فرض النظام والقانون في بلادهم. والاستقامة ومعناها باللغة الإنجليزية integrity تعني الالتزام الكامل وغير المنقوص بالقول الصائب والعمل الصائب والمقاصد الصائبة.
وقد تم تشويه السلوك المستقيم في المجتمع الصري عبر عقود كثيرة، وتم اختصاره للأسف علي أيدي رجال الدين وأهل الدعوة في العبادات. وبتنا نجد انفصاما خطيرا في سلوكيات الفرد، وأصبح من الطبيعي أن نجد أنماطا كثيرة تجمع بين العدوانية والتخريب والتهديد والتهور والإهمال في العمل والإساءة للأخرين والبذاءة في الحديث والكذب والغش والنفاق وعدم طاعة القوانين والاعتداء على حقوق الأخرين والسرقة والتحقير من شأن المرأة والطفل والتحرش وتعذيب الحيوانات والقاء المخلفات في الطرق، وفي نفس الوقت نجد نفس أصحاب هذه السلوكيات يهرعون إلى أماكن العبادة للصلاة في خشوع وانصياع ويسعون لزيارة المقدسات وأداء المناسك ويذكرون الله سبحانه وتعالي في كل مناسبة.
والاستقامة سلوك تربوي ومنهجي يحتاج الأسرة والمدرسة والمجتمع المدني والدولة لتأصيله وصيانته شأنه شأن البنية التحتية في أي مجتمع يسعي للارتقاء. وتحتاج مصر لاسترجاع هذا السلوك ليصبح سلوكا عاما لمعظم أفراد المجتمع. والعاملون بأجهزة الشرطة عليهم أن يستوعبوا أن استرجاع هذا السلوك يكمن في مدي اصرارهم على أن يكونوا هم الطليعة والقدوة الحسنة لغيرهم من شرائح المجتمع. ومن هنا تأتي ضرورة اختيار العاملين بالشرطة وتقييم أدائهم وفقا لمعايير أخلاقية لا تقبل المساومة مثل الأمانة والصدق والشهامة والتسامح والتحلي بأدب الحديث واعلاء قيم العدل والمساواة في التعامل مع الأخرين واحترام القانون. والاستقامة لا تتنافي مع الحزم والحسم والحصافة، وإنما تزيد من هيبة رجل الشرطة ورهبته واحترامه. وهو ما يتوق إليه المصريون من أجهزة الشرطة في مصر.
وتأتي وزارة الداخلية كأحد أهم الوزارات التي تصف بالسيادية في مصر، ومن أكثر أجهزة الدولة التابعة منهجيا وفكريا للسلطة الحاكمة من خلال دقة اختيار وزيرها بمعايير ومزايا تحافظ على هذا الولاء، ومن خلال رصد الميزانيات التي تتيح من سيطرة الوزارة على كافة الشرائح والفئات الاجتماعية وتعظيم حجم إشرافها على الكثير من أنشطة المجتمع. وما تم الكشف عنه مؤخرا بالعديد من الصحف المصرية من مبالغ طائلة تم صرفها على هيئة حوافز للعديد من قيادات الشرطة يدل على مدي استشراء الإفساد المقنن بالوزارة لحماية حكم مبارك. وبالرغم من أن منهج الإفساد قد طال العديد من الأجهزة الحكومية، إلا أن إفساد من هم على عاتقهم مسئولية إرساء دولة النظام والقانون هي أشد أنواع الجرائم وأكثرها تدميرا للمجتمع، وخاصة مع حجم الانتهاكات الانسانية التي مارستها أجهزة الداخلية في عهد مبارك والعادلي والتي قد تكون الأسوأ في تاريخ الوزارة. ولن ينسي الكثيرون حينما استدعي مبارك القوات المسلحة لمساعدة وزارة الداخلية في تأمين البلاد أثناء مظاهرات الغضب في 2011، أن اختفت كافة أجهزة الشرطة اعتبارا من 28 يناير وتركت المهمة تماما للجيش.
وأتذكر عودة بعض أجهزة الشرطة بعد شهر ونصف على استحياء بعد أن تردي الأمن العام في مصر لدرجة مخيفة أفزعت المواطنين مما جعلت معظمهم أكثر انصياعا وترحيبا وتصالحا مع عودتهم. كما ظهر جليا استجداء المصريين للشرطة خلال فترة حكم الإخوان وهي الحالة التي تسببت في إحياء دوافع التسلط مرة أخري لوزارة الداخلية. وبالرغم من تصريحات الرئيس السيسي لأجهزة الشرطة بضرورة مراعاة تطبيق القانون بما يحافظ على حقوق المواطن وكرامته، إلا أن تجاوزات العديد من ضباط وأمناء الشرطة لم ترتقي إلى دعوات الرئيس. وبات الكثيرون يشعرون أن وزارة الداخلية تمارس منهجها القمعي مرة أخري، وتحكم وتؤثر في كافة توجهات الدولة، وأن تهديدات الإرهاب تحولت إلى ذريعة تستخدمها بعض الضباط وأمنائها للانتقام من كل من شارك في ثورة 25 يناير أو ساندها بغض النظر عن انتماءاتهم وعقائدهم.
وبالرغم من أن الكثيرين ممن التحقوا علي مر التاريخ بأجهزة الشرطة هم من خيرة أبناء مصر وأدوا مهامهم علي أكمل وجه، وأن بينهم من ضحوا طواعية بحياتهم، إلا أن هناك الكثيرون أيضا ممن يسيئون لجهاز الشرطة وللشرفاء من أبناءها خاصة في ظل صمت السلطة السياسية عن تجاوزات الوزارة.
وأتصور أن الجهد الذي نشهده حاليا لتطهير أجهزة الشرطة لا يرتقي إلى ما يأمله الكثيرون. وما نسعى إليه هو أن يكون هناك تمكين حقيقي للسلطة القضائية للإشراف ومحاسبة كافة القيادات والعاملين بوزارة الداخلية طبقا للقانون. والاستقامة ليست غريزة أو صدفة وإنما هو سلوك يحتاج لضوابط وقواعد تراقبه تحافظ عليه.
وعلينا أن نبدأ بالبحث عن الدوافع الحقيقة لالتحاق المصريين بالشرطة، والتأكيد على أن تلك الدوافع لا تتنافي مع الحاجة لترسيخ الاستقامة ضمن سلوكيات وقيم ورسالة الشرطة ومناهج التعليم بها ومهام أجهزتها طوال مراحل الاختيار والتقييم والالتحاق والعمل والترقي.
وقد تكون هناك ضرورة للتوسع في إنشاء فروع للتعليم المتوسط والعالي لطلاب الشرطة في معظم المدن الرئيسية بالمحافظات، والاستعانة بالقوام الأعظم من الخريجين للعمل في محال اقامتهم، حيث تحافظ البيئة المحلية للمواطن الذي ينتمي إليها على قوام سلوكياته واهتمامه بالحفاظ علي حسن سمعته.
وهناك ضرورة لاعتماد أجهزة الدولة علي قاعدة بيانات متكاملة لحصر كافة الكوادر المصرية المتخصصة في مجالات العمل العام أو المؤهلة للعمل بها، والتعرف على كافة المعلومات الخاصة بهم مثل السير الذاتية التفصيلية، ومراجع عن سابق أعمالهم وخبراتهم، وشهادات تقييم للأداء والقدرات من الجهات التي عملوا بها، والدورات التدريبية والتنموية التي التحقوا بها، وكذلك الأحكام القضائية التي صدرت ضدهم والوثائق التي تدعم الاشتباه الأمني لهم، بهدف توفير وتطوير أليات التقييم والاختيار عند الحاجة للاستعانة بقيادات قادرة علي الالتحاق بالعمل العام. وأن تكون تلك القاعدة بديلا للمعلومات التي تستخدمها الأجهزة الأمنية بالوزارة للتأثير على ألية ترشيحات وتعيينات كافة قيادات العمل العام في الوزارات والأجهزة المحلية والهيئات والسفارات والجامعات المؤسسات الصحفية والإعلامية والتي لا يعرف أحد محتواها أو كيفية الحصول عليها.
وهناك حاجة شديدة لمراجعة اشراف الوزارة على الكثير من أنشطة المجتمع، بهدف تخفيف معدلات التعامل بين وزارة الداخلية والمواطنين بحيث لا يربط المواطن بين معاناته اليومية وأداء الشرطة، وخاصة أن المتسببين في تلك المعاناة من الموظفين المدنيين التابعين للوزارة. وأقترح أن يحدث هذا من خلال فصل كافة الخدمات المدنية للمواطنين التابعة لوزارة الداخلية وضمها لهيئات حكومية أخري.
وأخيرا قد يكون مناسبا فصل مهنة ضباط وأمناء وأفراد المرور وهم الأكثر احتكاكا بالمواطنين عن أجهزة الشرطة وانشاء هيئات تعليمية خاصة بهم لتعليم واعداد وتطوير كوادرها، وهناك تجارب شبيهة بعدد من الدول المتقدمة.
إرساء القدوة الحسنة للمجتمع من ضباط وأمناء الشرط هي بداية الطريق لاستقامة المجتمع والدولة.
وللحديث بقية ...................

التعليقات