قضاة يستحضرون سلطة تقييد الحقوق

لابد لنا من وقفة حاسمة مع ظاهرة تجريم مؤسسات السلطة للعديد من الحقوق التي أقرها الدستور، ومع هذا تصدر الأحكام بشأنها من خلال تفسيرات لا تتسق مع مواده باعتبارها سلوكا من شأنه خدش الحياء أو فعل فعلا فاضحا أو ازدراء الأديان، ويتم حبس المواطنين على أثرها. والحقيقة أن هذا الأداء لمؤسسات السلطة يروج للمواطنين وللعالم أننا دولة لا تحترم دستورها وتستغل قصور عددا من مواد القانون لقمع الحريات. وفي الوقت الذي يتم فيه حبس الناس جزافا، نجد أيضا عجز الدولة في التصدي للعديد من الأفراد الذين يتعاملون طبقا لأهوائهم ومعتقداتهم لفرض أمورا تسلب حقوق الغير بعيدا عما يقرره القانون، ورأينا كيف تستسلم مؤسسات الدولة لتلك الممارسات وتقرها كأمر واقع. والحقيقة أني لا أجد تفسيرا لما يحدث سوي أن الدولة ما زالت أسيرة لمحاولات فرض مفهوم الدولة الدينية بالرغم من رفض الشعب لها، وإقرار الدستور بمدنية الدولة، وبتولي الدولة اهتماما خاصا بالحفاظ على مكونات التعددية الثقافية في مصر.
والحقيقة أن سكوت المثقفين وغيرهم عن تلك الانتهاكات للحقوق سيؤدي بالقطع لإعادة سيطرة الفكر المتطرف مرة أخري على الحياة العامة والخاصة، والذي نجح لسنوات طويلة في شغل الناس عن اهتمامهم بحقهم الأصيل في الحياة الكريمة والعادلة، وهو ما أعطي الفرصة لاستحواذ أجهزة القمع على ادارة البلاد بعيدا عن اهتمام الشعب.
ولا خلاف إننا مازلنا نعاني من تأثر العديد من أفراد المجتمع بالأفكار الوهابية المتطرفة التي غزت مجتمعنا، والتي تصادر العديد من حقوقنا الدستورية والقانونية. فتحرم تلك الأفكار الاختلاط بين الجنسين، وتجرم حرية الإبداع والفن والأدب والاعتقاد، وتهدر كافة حقوق المرأة المصرية المسلمة بحجة الخوف عليها من الثقافات والسلوكيات التي وصفتها بالكافرة والسافرة. وللأسف فقد قد طالت هذه الثقافة عددا كبيرا من المسئولين عن إرساء القانون والنظام في مصر وأقصد هنا بعض رجال الشرطة والنيابة والقضاء والذين باتوا لا يلتزمون بمواد الدستور والقانون في أدائهم وأحكامهم، واستحدثوا لأنفسهم سلطات تقويم المجتمع بعيدا عما تنص عليه التشريعات.
ومن المفارقات الغريبة أن العقوبات التي يحكم بها عدد من القضاة في جرائم خدش الحياء غالبا ما تكون أكثر قسوة من جرائم التحرش أو هتك العرض أو الاغتصاب أو العنف ضد المرأة حيث يسود الاعتقاد أن الجاني في تلك الجرائم هو الضحية. وتنطبق نفس المفارقة على جريمة الفعل الفاضح والتي تترك لتفسيرات الأفراد بعيدا عن وقائع محددة قانونا. وواقعتي حبس اسلام البحيري وفاطمة ناعوت خير مثال علي ذلك. ويجيء ما حدث منذ يومين من محاكمة كاتبا على خياله الروائي وحبسه، ومطالبة نقيب الموسيقيين أجهزة الأمن بحبس ثلاثة عازفين لموسيقي "الميتال" باعتبار هذا النوع من الموسيقي يرمز لعبدة للشيطان لينذر بردة خطيرة في مقاصد من يتولون أمرنا.
وعلى صعيد أخر نجد كما هائلا من الخطايا الفاضحة للعديد من أفراد المجتمع والمسئولين بالدولة، والتي لا تثير الاهتمام أو الحاجة لتدخل أي من المسئولين عن إرساء القانون والنظام في مصر. فباتت من الأمور المقبولة الجهر بالسباب والشتائم والاساءة للسمعة الشخصية التي يطلقها العديد من الشخصيات العامة عبر وسائل الإعلام، وإذاعة التسجيلات التليفونية الخاصة التي يتحصل عليها عدد من الصحفيين والإعلاميين والسياسيين لتشويه سمعة منافسيهم أو خصومهم بهدف اقصائهم من الحياة العامة، وتجنى الكثيرون كذبا وزورا على الأخرين بالأقوال والأفعال، واخفاء الحقائق حول احداث تؤثر علي علاقاتنا بدول صديقة، واستمرار حبس الشباب لممارسة حقهم الدستوري في الاحتجاج والتعبير السلمي عن الرأي، واستغلال عدد من أعضاء مؤسسات السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية لمناصبهم للحصول على استثناءات، وبلطجة عدد من ضباط وأمناء الشرطة على المواطنين واستخدام حملهم للسلاح لترويعهم، والرشاوي التي باتت عرفا عاما في معظم المصالح الحكومية مقابل أداء خدمات هي من حق المواطنين، وتكرار تغيب الموظفين العموميين عن العمل، والفساد الإداري بالمحليات لتسيير مخالفة المواطنين للقانون، وابتزاز الموظف العام للمستثمرين ورجال الأعمال، والتهرب الضريبي لأصحاب الدخول غير المنظورة، واستفحال الغش التجاري، واستقواء عدد من الهيئات والمؤسسات الخاصة ببعض أفراد الأجهزة الأمنية المحلية لفرض سطوتها علي المتعاملين معها من المواطنين، والانتشار العلني لتجارة وتعاطي المواد المخدرة، وظاهرة جرائم الخطف والحصول علي الفدية، وكذلك جرائم سرقة المتعلقات الشخصية والأموال من الأفراد في الشوارع في وضح النهار، والتغاضي عن السلوك اليومي للمواطنين في اهدارهم للمياه، والقاء أصحاب المحال والأفراد القمامة بالشوارع والأراضي الفضاء، والقاء العديد من الأفراد المخلفات والحيوانات النافقة بالنيل والترع، وانتشار روث الحيوانات بالعديد من الطرق، وتحول العديد من جدران المباني وأسفل الطرق الدائرية والكباري لاستخدام البعض في قضاء حاجتهم علي مرأي من المواطنين والسائحين دون استحياء،  وتعرض الأطباء بالعديد من المستشفيات للاعتداء من أهالي المرضي، وتعرض المعلمين بالعديد من المدارس للاعتداء من أولياء أمور الطلبة لعدم السماح لهم بالغش في الامتحانات، وتزايد ظاهرة العنف داخل الأسرة، وإكراه عدد من الأهالي لبناتهم القصر علي الزواج من الأثرياء العرب، واستمرار ارتكاب بعض الأهالي لجريمة ختان الإناث، وتسرب الأطفال من التعليم واستفحال ظاهرة أولاد الشوارع والتسول، واستمرار المعاكسات والألفاظ البذيئة والتحرش الجسدي للنساء، وعدم التزام معظم قائدي المركبات بتعليمات وقوانين المرور، والأضرار التي تلحق بالمركبات نتيجة لسوء حالة رصف الشوارع الفرعية وعدد من الطرق الرئيسية، وسوء معاملة الحيوانات، وتشويه القيم الجمالية للشكل الخارجي للأبنية والعمارة والتماثيل والميادين والأثار والحدائق في معظم المدن المصرية، وغيرها من الأمور التي باتت مقبولة من المسئولين عن إرساء القانون والنظام.
وأصبح التزامنا بالدستور انتقائيا، وبات ارساء القانون والنظام في مصر ناجزا فقط لتقييد الحقوق، في حين أن أولويات المواطن المصري في كافة أنحاء البلاد أصبحت بعيدة عن دائرة اهتمام العديد من رجال الشرطة والنيابة والقضاء. فهل سنظل صامتين أمام تلك التجاوزات؟ لا أعتقد.
وللحديث بقية .........

التعليقات