هل تريدها ديمقراطية أم شمولية؟

هناك شخصيات عظيمة ومحترمة تملك المعرفة والقدرة والكفاءة والخلق الحميد ولكنها لا تقبل الاختلاف أو النقد. ويمكن لتلك الشخصيات تحقيق النجاح والتفوق في الكثير من المهام مثل رئاسة الإدارة التنفيذية لعدد من المؤسسات الاقتصادية والمالية، أو قيادة الجيوش، أو رئاسة أحد أنظمة الحكم الشمولي التي لا تسمح بالتعددية السياسية مثل أنظمة الحكم الشيوعي القديمة أو أنظمة الحكم العسكري أو أنظمة الحكم الديني. أما في الدول الديمقراطية أو في المجتمعات التي تسعي لتطبيقها فسنجد أنه من الصعوبة أن تنجح تلك النماذج في العمل السياسي وبالأخص إذا كانت هذه المهمة قمة العمل السياسي. والرئيس عبد الفتاح السيسي عليه أن يواجه تلك الحقيقة وأن يقرر ما إذا كان راغبا للتغيير وقادرا عليه لمواكبة السلوك السياسي لرئيس جمهورية منتخب في دولة ديمقراطية، أما أنه سيفرض على كافة قطاعات الشعب نظام حكم شمولي يتناسب مع مقومات شخصيته، وفي هذه الحالة الأخيرة عليه اللجوء لتغيير نظام الحكم في مصر إما من خلال الحصول على تأييد الشعب أو إرغامه حتى يفهم كل مواطن مصري حقوقه وواجباته السياسية ويحدد اختياراته طبقا لهذا الفهم.
لقد أثار خطاب الرئيس الأخير في مؤتمر رؤية مصر 2030 حالة من الجدل ازعجت الكثيرين من مؤيديه، وأعطت الفرصة لمعارضيه للتشهير بالكثير من عباراته التي غلب عليها مظاهر الاستبداد. والرئيس قد يكون قد خانه التعبير أكثر من مرة اثناء القاء كلمته، وخاصة أن الحديث كان عفويا وفي فترات منه اتسم بالانفعال. فقد أخطأ الرئيس حينما طالب كل من له رأي مختلف أو نقد لأدائه أو أداء مؤسسات السلطة بالصمت. كما أخطأ حينما أعلن أنه الوحيد في هذا الوطن الذي يفهم ويقدر. وأخطأ أيضا حينما طالب الجميع ألا يستمعوا لأحد غيره. والحقيقة أني لا أتصيد لما يقوله الرئيس ولا أرغب في الاستهانة بما تضمنه باقي الخطاب من مصارحة مطلوبة، إلا أن ما أخشاه من تلك الرسائل التي يبعثها الرئيس للمواطنين أنها ستزيد من عزلة الرئيس عن الملايين من المواطنين الذين خرجوا لاختياره رئيسا لهم، وستجعل الكثيرين من المهتمين بالشأن العام يفقدون الاهتمام والأمل أو ينتابهم الخوف.
الرئيس عليه أن يكون أكثر قبولا وترحيبا لا راء وأفكار ومقترحات المختلفين معه والمنتقدين لأدائه أو أداء مؤسسات الدولة. كما عليه أن يدرك أن الثقة المطلقة في القيادات والطاعة العمياء هي بالتأكيد ليست من الصفات التي تقوم عليها الشعوب الحرة تحت نظام حكم سياسي ديمقراطي. وبالتأكيد أن هناك يقين سائد بين أغلب المصريين أن الفريق أول السيسي أنقذ البلاد من فاشية حكم الاخوان ومن تهديدات الأخطار المحيطة لأمننا القومي. إلا أن تلك الأغلبية انقسمت إلى عدة قطاعات مؤثرة بدرجات متفاوتة طبقا لنسبة كل قطاع منهم وقدرته على التأثير حول تبعات هذا اليقين. وهذا الانقسام صحيا على عكس ما يروجه البعض، فالمجتمع المدني تختلف مصالح شرائحه وتتنوع ثقافة أفراده وتعليمهم وأعمارهم وعقائدهم واهتماماتهم. والتوحد الذي يطالب به الرئيس السيسي يكون ضد العدو ودفاعا عن الوطن وليس توحدا في السياسة أو الاقتصاد أو الثقافة. والرئيس عليه أن يقبل أن المعارضين له مختلفين فيما بينهم والمؤيدين له أيضا مختلفين فيما بينهم. وأن هذه هي سنة الحياة بعيدا عما يريده الحاكم.
وفي رأيي أن القطاعات المعارضة للرئيس السيسي هم ثلاثة: أولا -الإخوان والداعمين لشرعية محمد مرسي وللإرهاب. ثانيا – من يروا ضرورة ابتعاد العسكريين عن الترشح لانتخابات الرئاسة لقناعتهم أن استبداد الحكام السابقين ناصر والسادات ومبارك جاء نتيجة اعتمادهم على دعم القوات المسلحة لهم، وتمكن المؤسسة العسكرية خلال عهودهم أن تصبح صاحبة التأثير الأكبر على القرار السياسي والنشاط الاقتصادي وأولويات الموازنة العامة للدولة، مما أحجم من قدرة الدولة علي توجيه موارد الدولة لرفع مستوي معيشة غير القادرين. ولم يصوت هذا القطاع للرئيس السيسي بالرغم من تأييدهم لثورة 25 يناير ووقوفهم معه في ثورة 30 يونيو. ثالثا – هؤلاء الذين انقلبوا على ثورة 30 يونيو بعد تأييدهم لها في أعقاب فض رابعة وأحداث الحرس الجمهوري. ولا ينتمي هذا القطاع للإخوان او للداعين لدولة دينية. وقد حمل هذا القطاع مسؤولية ما حدث من قتل وعودة مناخ قمع الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان للرئيس السيسي منذ أن كان وزيرا للدفاع في عهد المستشار عدلي منصور وللمؤسسة العسكرية ووزارة الداخلية، وتتزايد أفراد هذا القطاع في ضوء استمرار الانتهاكات التي تمارسها أجهزة وزارة الداخلية.
أما القطاعات المؤيدة للرئيس السيسي فهم في رأيي خمسة: أولا – هؤلاء من تملكهم الخوف من عشوائية الحال العام في مصر من بعد سقوط مبارك وحتى مجيء السيسي ورأوا في استعادة قوة الدولة والأمن والقدرة على محاربة الإرهاب مبررات كافية لأن تتخذ القيادة السياسية ما تراه مناسبا لإنقاذ مصر حتى لو استدعي هذا عودة القمع. ويعتقد هذا القطاع في ضرورة أن يكون حاكم مصر من المؤسسة العسكرية لتأكيد قوة النظام في مواجهة أعداء الوطن. ويعتبر هذا القطاع أن طبيعة المرحلة لا تحتمل أية انتقادات لأداء الدولة حتى لو أخطأت أجهزتها في حق المواطن. ثانيا – هم من يشبهون القطاع الأول في ردة فعلهم ولكنهم مختلفون في دوافعهم. هذا القطاع يروج لثورة 2011 باعتبارها مخططا خارجيا لهدم الدولة المصرية، ويأمل في أن يصبح نظام الرئيس السيسي امتدادا لنظام مبارك. ويضم هذا القطاع المنتفعين من السلطة والمزايدين لها بشكل عام بغض النظر عن مدي نجاحهم في تحقيق ذلك. ولهذا ينتهز هذا القطاع توحد مطالبه مع القطاع الأول ليزيد من قواعده الشعبية لإعادة احياء النظام القديم. ثالثا – هم من لا يشغلون أنفسهم بخلفية الرئيس العسكرية وإنما يثقون بحبه للوطن ونزاهته ويجدون فيه دور المنقذ للبلاد ولا يروا بديلا عنه. ويبدي هذا القطاع تعاطفا كبيرا مع الرئيس لحجم العبء الرهيب الذي ورثه من الحكام السابقين. ويري أن طبيعة المرحلة لا تحتمل الاختلاف ويطالب الأخرين بالصبر والثقة بنوايا وقدرات وفهم الرئيس لإعادة بناء الوطن. رابعا –هم لا يعبئون أيضا بخلفية الرئيس ولكنهم يجدوا في قبوله ترشيح نفسه رئيسا أنه قد انتقل لسلطة مدنية بما يحمله هذا الوصف من التزام عليه لكافة الأسس والمبادئ بالنظم السياسية الديمقراطية التي وافق عليها الشعب في دستور 2014. ويري هذا القطاع أنه لا يوجد تعارض بين انتخاب الرئيس وانتقاد أدائه وأداء مؤسسات الدولة. فأساس الحكم الديمقراطي هو أن يكون الشعب مصدرا للسلطات، وهذا يعطي المواطن حق المسائلة والمحاسبة دون انتقاص لحسن النوايا للحاكم وأعضاء حكومته. خامسا -التيارات السلفية والدينية المسلمة منها والمسيحية المهادنة للسلطة الحاكمة والمدعية رفضها لجماعة الإخوان المسلمين، والساعية لإحداث تأثيرات على سلوكيات الدولة والمجتمع لإعادة إحياء الدولة الدينية مستقبلا.
والرئيس عليه أن يدرك أن الانتقاد والاختلاف في الرأي لا يأتي من المعارضين ولا من المنافقين بقدر ما يأتي من هؤلاء الذين يريدون لهذه الأمة أن تنجح في التقدم بشعبها. فهل سيسعى الرئيس لإبعادهم من صفوف المؤيدين له؟
وللحديث بقية ....

التعليقات