العالم الافتراضي وخيارات الدولة المصرية

منذ أن تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي حكم البلاد والحديث لا يتوقف حول أخطار الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي وتهديداته للأمن القومي، خاصة بعد أن أعتبره الرئيس أحد اسلحة الجيل الرابع من الحروب، تلك التي تحدث بين ميليشيات منتشرة غير نظامية في مواجهة دولة لها جيش نظامي. وفي الوقت الذي يتوقع فيه الكثيرون ان يصبح الوسيط الرقمي هو السبيل الوحيد للتواصل والتداول والتأثير بحلول 2020، تتعامل الدولة المصرية مع الوسيط الرقمي على أنه عالم افتراضي بعيدا عن أرض الواقع وغير أمن.
وما يقلق الدولة المصرية هو أن هناك 48 مليون مستخدم للإنترنت في مصر متاح لهم التواصل مع ما يزيد عن 3 مليار مستخدم في العالم، وان عدد مستخدمي الفيس بوك في مصر –على سبيل المثال -في حدود 27 مليون شخص ضمن ما يزيد عن مليار مستخدم للموقع في العالم. وأنظمة الحكم في مصر اعتادت أن تعتمد في سيطرتها على الوطن ومقدرات الشعب على احتكار المعرفة والمعلومات وحجبها عن المقيمين داخلها، وعلى تزييف الحقائق وتضليل الراي العام بالأكاذيب والأفكار المغلوطة، عن طريق سيطرتهم على قيادات الرأي ووسائل الاعلام التقليدية.
وفي رأيي أن الرئيس قد جانبه الصواب في محاولته لربط ظهور الجيل الرابع من الحروب بالتطور الذي حدث في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. فما حدث من تحول للصراعات لتصبح بين الحضارات أو الثقافات بدلا من الدول أو التحالفات تم بفعل الاستراتيجيات السياسية والاستخباراتية الغربية التي استحدثت بعد نهاية الحرب الباردة، بمساعدة الأنظمة في عدد من الدول العربية والإسلامية، والتي استهدفت التيارات الإسلامية المتشددة واستخدامها لوقف النفوذ الروسي في المناطق المؤثرة على مصادر البترول والغاز في العالم. ولم يدركوا أصحاب تلك الاستراتيجيات أن تلك الجماعات بعد أن تم تدريبها وتسليحها واستخدامها في الحروب أنها ستنقلب عليهم داخل أوطانهم.  
وما لا يستوعبه نظام الحكم الحالي أن التطور التكنولوجي الذي حدث في اتاحة المعلومات والاتصالات، خاصة خلال الثلاثين عاما، الماضية أصبح واقعا مفروضا على الأرض وليس عالما افتراضيا كما يتصور هؤلاء الذين -دائما وأبدا -لا يريدون مواكبة تطور العصر، ويأمنون البقاء وحدهم داخل وسائط المطبوعات والميكروفونات والكاميرات. ولا يدرك هؤلاء أن الوسيط الرقمي أصبح المحط الرئيسي للمنتجات والخدمات والتجارة والبورصة والاستثمار والنقل والإعلان والصحافة والإعلام والسياسة والفكر والرأي والثقافة والأدب والفنون والعلوم والبحوث والتعليم، وأن الإصرار على تجاهل هذا الوسيط هو اختيار يضع هؤلاء خارج دائرة الزمن. وللأسف فإن القائمين على إدارة أمور البلاد والمدعين بالوقوف إلى جانبهم متأثرون بأفكار أمنية ودينية بالية، مفادها حتمية الطاعة العمياء للمواطنين دون الحاجة لمعرفتهم بما يهددهم أمنيا ودون معرفتهم بصحيح دينهم، وأن تترك القدرة علي الفهم وتقدير المواقف واتخاذ القرار للأجهزة الأمنية ومؤسسة الأزهر. إلا أن الحقيقة التي يدركها الكثيرون حتى وإن لم يجاهروا بها أن هذا الادعاء هو ما يسعي إليه الحاكم المستبد للاحتفاظ بحكمه، وهي الوسيلة التي لا يحتاجها الرئيس الحالي، الذي وصل للحكم من خلال إرادة شعبية كاسحة.
  وأتذكر أنه حتى منتصف السبعينات كانت رسائل البريد التي نرسلها أو التي تصلنا يتم فتحها والاطلاع عليها بواسطة الجهات الأمنية قبل أن يقرأها المرسل إليه، وكانت المحطات الإذاعية بالخارج يتم التشويش على العديد منها حتى لا تصل للمستمعين بالداخل، وكانت المطبوعات تمر على الجهات الأمنية قبل إجازتها للسوق المحلي. وأتذكر كيف توقف موقع معلومات مجلس الوزراء عن تحديث المعلومات والبيانات المتاحة اعتبارا من 1996 بناء على تعليمات الجهات السيادية. وأتذكر رفض الجهات الأمنية سنة 1999 لمشروع الحكومة الالكترونية والذي يتيح توافر وتكامل المعلومات والبيانات بين كافة الأجهزة الحكومية لتحسين خدمة المواطنين. وأتذكر رفض الأجهزة الأمنية لمشروع التصويت الالكتروني للانتخابات النيابية والرئاسية بالداخل أعوام 2005 و2006 والذي كانت يستهدف تصويب بيانات الناخبين ومنع التزوير. وأتذكر كيف تعطل مشروع قانون حرية تداول وتنظيم المعلومات من عام 2005 حتى الان بعد أن تحفظت الأجهزة الأمنية عليه. وبالطبع كلنا نتذكر كيف تم قطع كافة اتصالات الانترنت والتواصل الاجتماعي والهواتف المحمولة لمدة خمسة أيام اعتبارا من يوم 28 يناير 2011. ومن يتابع حركة توافر وتحديث المعلومات على الانترنت منذ أن تولي الرئيس الحالي إدارة البلاد فسنجد ندرة في المعلومات والبيانات المتاحة من الدولة المصرية. ونعلم جميعا تدخل الأجهزة الأمنية لتغيير مشروع قانون تنظيم الإعلام والذي تساءل الرئيس عن أسباب عدم صدوره حتى الأن. وحتى حينما بادر مجموعة من الشباب المصري في الاعتماد على تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات لتقديم خدمة أوبر المتميزة والأمنة وبأسعار أقل من سيارات الأجرة العادية، قررت أجهزة الأمن التصدي لهذا المشروع ومحاولة تعطيله.
والادعاء أن إتاحة استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات يفيد دعاة الإرهاب والفوضى والمؤامرات هو ادعاء منقوص، حيث أنه من الطبيعي أن تسعي البشرية للاعتماد على ما يقدمه العلم لها في كافة المجالات. وأنه من الطبيعي أن يشمل هذا السعي الأغراض البناءة والهدامة. وأنه على الأجهزة الأمنية أن تستمر في سعيها لمجابهة الأفعال الخارجة على القانون، والعمل على القضاء عليها لحماية مجتمعاتها بدلا من محاربة حق المواطن الأصيل في المعرفة والتواصل والاستفادة. وأنا لست ضد اتخاذ عدد من المحاذير وسبل المراقبة الأمنية لتتبع الاستخدامات المشبوهة وملاحقة مرتكبيها بشرط أن تتم مثل هذه الإجراءات في اطار قانوني وتحت اشراف السلطة القضائية.
كما أن الادعاء أن الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي هي مصادر للشائعات والمغالطات واثارة البلبلة والفتن هو أيضا ادعاء غير دقيق. فالعالم منذ نشأته مليء بالادعاءات والتحريض. وكان من الأجدى أن تهتم الدولة المصرية بالتواجد والتأثير في عالم الوسيط الرقمي من خلال توفير المعلومات والبيانات الدقيقة والرد على الادعاءات وزيادة الوعي كما تفعل دول العالم الحر. إلا أنه ما حدث أن التيارات الإسلامية المتطرفة كانت أكثر فطنة وذكاء من حكوماتنا حينما استغلت وجود مثل هذا الوسيط للوصول إلى الفئات المجتمعية المستهدفة. والحقيقة المؤسفة هي أن حكوماتنا دائما ما تتجنب الجهد المضنى والعمل الدؤوب من أجل مواطنيها وتفضل اللجوء للحلول السهلة كالمنع والحجب والتحريم.
والادعاء أن ثورة 25 يناير هي ثورة شباب الفيس بوك والتويتر هو أيضا ادعاء غير دقيق. فالرئيس الأسبق مبارك لم يتنبه أن لجوء الشباب المصري للعالم الافتراضي كان هروبا من القيود التي وضعها نظامه على الأرض والملاحقات الأمنية للأحزاب والحركات الوطنية في مصر المناهضة لحكمه، وبديلا لصناعة رأي عام معارض شارك فيه الملايين من أبناء وبنات الشعب داخل وخارج مصر.
ما أتمناه هو أن تتوقف حملات الهجوم والتشكيك في استخدامات شبكة الانترنت والتواصل الاجتماعي وأن تتبني الدولة عددا من المشروعات لتعظيم الاستفادة الجادة والمتكاملة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والاعتماد على شبكاتها ومواقعها للترويج والإعلان والإعلام والتعبئة والحشد، وإعداد النظم والتطبيقات والإجراءات التكنولوجية القادرة التي ستمكنها من القضاء على الفساد الإداري والتهرب الضريبي والجمركي، والارتفاع بمستويات الإرشاد والخدمة للمواطنين والشرائح المختلفة للمجتمع وللمستثمرين، والنهوض بمعدلات الإنتاجية والاستخدام الأمثل للوقت والجهد، والتخفيف من حدة الزحام والمرور، وتوفير التكاليف الرهيبة لاستخدامات الورق والأبنية والمكاتب والطاقة ووسائل النقل، وتحويل البطالة المقنعة لقوة عمل دافعة للبناء والتقدم، والارتفاع بمستوي المعرفة والإدراك والوعي للمواطنين لتفهم قضايا الوطن وأولويات الإصلاح والعمل.
فهل من مجيب؟
وللحديث بقية ...

التعليقات