تشرذم اليسار في مصر

تعرضت في مقالي السابق للتحالف المؤثر للتيارات اليمينية المساندة للرئيس السيسي. (الرابط http://el7ekaya.com/opinion/2016/08/01/15767 ). وليس مستغربا أن أغلبية أعضاء مجلس النواب الحالي هم من ضمن هذا التحالف بما فيهم رئيس المجلس. كما نجد أن النظام الحاكم يسعي لترسيخ هذا التحالف من خلال مبادرات لفتح باب التصالح مع العناصر التي لم تنسب إليهم أفعال إجرامية من جماعة الاخوان المسلمين تحت مبرر عودة المجتمع المصري نسيجا واحدا. وفي رأيي أن المكان الطبيعي للإخوان هو أن يكون ضمن هذا التحالف، ولو كانوا قد أدركوا كيفية التنسيق مع المجلس العسكري وعدم تخطيهم الخطوط الحمراء لطبيعة هذا التنسيق، ولو لم يحاولوا الاستحواذ وحدهم على كافة مؤسسات السلطة، لما كان قد وصل بهم الحال لما حدث لهم في منتصف عام ٢٠١٣. 

وعلى الجانب الأخر، هناك من يمكن اعتبارهم علي يسار تلك التيارات في مصر، وهم الأكثر تمثيلا لمطالب واستحقاقات الأغلبية الساحقة للقوي العاملة والشباب والمرأة ومحدودي الدخل والفئات المهمشة والفقراء ومن يعيشون تحت خط الفقر.  إلا أن الواقع يقول غير هذا، فجذورهم داخل القواعد الشعبية في مصر ومدي تأثيرهم عليها محدود للغاية. ونجد أن تلك التيارات منتشرة بين المثقفين من الفنانين والمبدعين والصحفيين والإعلاميين والنقاد والنشطاء الحقوقيين والسياسيين والأكاديميين والنقابيين. وتفتقد تلك التيارات الرغبة والقدرة على التوحد أو التحالف نتيجة لتعصبهم وتمسكهم الشديد بالفروق الايديولوجية النظرية بينهم، ورفضهم العمل معا على بناء أرضية مشتركة يمكنهم من خلالها جذب العديد من الشرائح الاجتماعية وتعبئة كتلة شعبية منافسة قادرة على اختيار من يمثلونهم في الانتخابات المحلية والنيابية والرئاسية. وفي رأيي أن تلك التيارات كانت هي طلائع ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ إلا أن انقسامهم وتشرذمهم هو ما أدي إلى اختطاف الثورة على أيدي الاخوان المسلمين والجماعات السلفية.

واليسار في أذهان المصريين مرتبط بالعلمانية وقد نجحت التيارات اليمينية من خلال سيطرتها على الصحافة والاعلام والمؤسسات الدينية والأمنية في ترويج تعريف العلمانية خطئا بالإلحاد، مما خلق حالة مقاومة شعبية لدعم أفكاره وتبنيها. إلا أن اليسار في مصر هو الأكثر تبنيا لمبادئ الحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية والأكثر تعاطفا مع مبادئ حقوق الإنسان، وإن كانت قدراته علي ترويج تلك المبادئ بين المصريين للالتفاف حولها لم يتحقق إلا خلال الثمانية عشر يوما الأولي من ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ والتي كان شعارها "عيش، حرية، كرامة إنسانية، عدالة اجتماعية". 

وإذا بدأنا بتوصيف أقصي اليسار في مصر فيمكننا ايجازهم في ثلاثة تيارات:

1.      المناهضين للسلطة، ويطلق عليهم البعض اللاسلطويون أو الفوضويون، وقد بدأ ظهور هذا التيار في أعقاب ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، حينما وجد البعض من الذين شاركوا في اسقاط نظام مبارك أن الأنظمة الحاكمة التي جاءت بعد الرئيس المخلوع لم تعبر عن مطالب الثوار، وأن الأجهزة الأمنية بعد أن استجمعت قواها أسرفت في انتقامها من شباب الثورة ورموزها، وأن مؤسسات القضاء عملت على تبرئة الرئيس مبارك وعائلته وبطانته وكافة المتهمين بقتل الثوار والمتورطين في موقعة استاد بورسعيد، وأن الاعلام الخاص فقد استقلاليته وبات بوقا لمؤازرة النظام، وأن منصب رئيس الجمهورية عاد مرة أخري ليشغله شخصية عسكرية. ويميل أصحاب هذا التيار في مصر إلي رفض السلطة والنظام الاحتكاري الطبقي، وإلغاء الملكية الخاصة لكافة وسائل الإنتاج. ويعتبر النقابات والاتحادات والغرف الممثلة للشرائح المجتمعية المختلفة القوة الكامنة للتغيير. ويدعم الإدارة الذاتية من خلال ممثلين يتم اختيارهم من خلال القواعد الشعبية لتلك الشرائح. ويؤكد أصحاب هذا التيار على حرية التظاهر والاعتصام والاضراب. وهم لا يقرون العنف ولكنهم يؤمنون بمبدأ الدفاع عن النفس. والحقيقية أن أصحاب هذا التيار لا يمثلون تعدادا كبيرا في مصر إلا أن تأثيرهم يكمن في تشجيعهم للفوضى وعدم امتثالهم للنظام والقانون وهو ما يكون مشجعا للفئات المقهورة في مجتمعنا.

2.      الاشتراكية الثورية، والتي يمكن اعتبارها إعادة انتاج للماركسية، تؤمن بضرورة حشد القوي العمالية ضد سيطرة رأس المال، وترفض الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. ويصر أصحاب هذا التيار على ربط الفساد والاحتكار والاستغلال بتصرفات أصحاب رأس المال والأعمال الخاص. ويتبني أصحاب هذا التيار شعار "الثورة مستمرة" ويسعي لإنشاء أحزاب وحركات عمالية قادرة على الوصول للسلطات التنفيذية والتشريعية وإدارة حركة التنمية. كما يؤمن بضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال إعادة تقسيم الثروة وإذابة الفوارق بين الطبقات. ويرفض أصحاب هذا التيار تدخل الجيش في الشئون الداخلية للبلاد. وهم من المؤيدين للقضية الفلسطينية والرافضين للعلاقات المصرية الإسرائيلية. وقد تحالف هذا التيار مع جماعة الاخوان المسلمين أثناء حكم مبارك وثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ إلا أنهم احتجوا على السياسات الاقتصادية لحكم الاخوان وشاركوا في كافة الاحتجاجات ضدهم. 

3.      الناصرية أهم أهدافها العمل نحو وحدة عربية شاملة في إطار هوية قومية جامعة للشعوب العربية تتساوي فيها الحقوق والواجبات. يؤمن أصحاب هذا التيار بضرورة استرداد المكاسب التي حققتها ثورة يوليو ١٩٥٢ كما أنهم من المدافعين عن القطاع العام والمطالبين باقتصاد وطني مستقل ومن المنتقدين للاستثمار الأجنبي ومخاطر العولمة على الدول النامية. وتختلف الناصرية مع الاشتراكية الثورية في رفضهم للعنف وايمانهم بالدور الوطني للقوات المسلحة وضرورة الحفاظ على قوته الرادعة. كما أنهم ليسوا ضد الملكية الخاصة بشرط عدم تورطهم في استغلال واحتكار قوت الشعب.

وسأستكمل في مقالي القادم الحديث عن التيارات المختلفة في مصر وتحديدا من هم علي يمين التيارات اليسارية الراديكالية أو علي يسار التيارات اليمينية المحافظة. وأنوي بعد ذلك الحديث في مقال لاحق عن المصالح والدوافع التي تحدد الانتماءات المختلفة لتلك التيارات ووقعها على الحاضر والمستقبل السياسي لمصر، أملا في معرفة ما إذا كانت هناك فرصة لبدائل سياسية مؤثرة يمكنها أن تطرح نفسها في السباق القادم للانتخابات الرئاسية في ٢٠١٨.

التعليقات