حديث لم يكتمل

استكمل اليوم الحديث عن التيارات السياسية المختلفة في مصر، وتحديدا التيار اليساري التقدمي، والتيار الديمقراطي الاجتماعي، وهما أكثر التيارات تمسكا بالديمقراطية.

والغرض من استعراضي للتيارات السياسية في مصر سواء في مقالي اليوم أو في المقالين السابقين هو التذكير بأن الدعوة لتوحد الفكر السياسي بين مختلف أطياف المصريين، التي يصر عليها الرئيس السيسي، واستخدامه للأجهزة الأمنية والإعلامية وكافة سلطات الدولة لتسيير هذا الاتجاه، هو جهد لن يثمر عن شيء سوي المزيد من الاحتقان والسلبية بين المواطنين وسيعيق من رغبته في إعادة بناء الوطن. وأن توحد المواطنين حول جهود البناء والتنمية لن يتأتى من أحادية الفكر السياسي بل سيتحقق من خلال استيعاب الاختلاف، الذي يثري ويضيف إلى فاعلية الحياة السياسية والمشاركة المجتمعية والتعبئة الجماهيرية.

ويقترن التيار اليساري التقدمي في مصر بحزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، الذي تأسس عام ١٩٧٦ مع إعادة تأسيس الأحزاب في مصر بعد حل الاتحاد الاشتراكي.

 واستمر هذا الحزب لسنوات طويلة وعاءً لجميع التيارات اليسارية الشيوعية والاشتراكية والقومية والناصرية، وقد أدي هذا التنوع داخل الحزب إلى العديد من الخلافات والانشقاقات الداخلية، مما عطل من مسيرته وأضعف من قدراته على التواصل المؤثر مع القواعد الشعبية.

كما عانى الحزب دائما من انعدام القدرة على تمويل أنشطته مما اضطره للتحالف خلال فترات كثيرة مع أحزاب لا تمثل التيار اليساري من بعيد أو قريب ولكنها تملك القدرة على التمويل.

وخلال السنوات الأخيرة لحكم مبارك انفصل التيار الناصري والتيار الاشتراكي الثوري عن حزب التجمع، كما انفصل عنه بعد ثورة ٢٥ يناير التيار الديمقراطي الاجتماعي، لتصبح معالم حزب التجمع أكثر وضوحا، وإن كان هذا لم يزيد من شعبيته أو تناغمه. إلا أنه إحقاقا للحق، يعتبر هذا الحزب الأعلى صوتا والأكثر كفاحا ومعارضة لنظام حكم مبارك دون أن يكون له تمثيل مؤثر داخل البرلمان.

ويؤمن أصحاب هذا التيار في إطاره الجديد بالديمقراطية، كأساس للاستقرار السياسي والتداول السلمي للسلطة.

كما يؤمنون بالقومية العربية كركيزة لتضامن الشعوب العربية في رفضها لكافة أشكال التبعية للإمبريالية الغربية. ويؤمنون بدولة قوية قادرة على الرعاية الاجتماعية وحماية مواطنيها من الاستغلال الاقتصادي، واختار أصحاب هذا التيار التحالف مع الإسلاميين لمجابهة نظام مبارك وما على شاكلته.

ويختلف التيار الديمقراطي الاجتماعي عن التيار اليساري التقدمي في دعمه لاقتصاد السوق، ورفضه التحالف مع التيارات الإسلامية، وإصراره على مدنية الدولة. كما يختلف في عدم تحيزه لحتمية القومية العربية، ويميل أصحاب هذا التيار إلى الليبرالية والتأكيد على الالتزام بالمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان.

 كما يؤمن بأهمية استقلال الثقافة والصحافة والإعلام وحق المجتمع المدني في إعادة تنظيم نفسه.

 ويتفق التياران على ضرورة إعلاء النظام الديمقراطي كأساس لسلطات الدولة وعلى إعادة توزيع الثروة لتحقيق العدالة الاجتماعية. وتعتبر الديمقراطية الاجتماعية هي أحدث التيارات التي ظهرت على المسرح السياسي المصري.

وبالرغم من أن مبادئ هذا التيار اتفقت كثرا مع طموحات الكثيرين ممن شاركوا في ثورة ٢٥ يناير، إلا أن حداثته واعتداله وافتقاده للروح الثورية جعلته أقل جذبا بالمقارنة بالاشتراكيين الثوريين في ظل المنهج الفاشي للإخوان وعودة البطش الأمني المدعوم من أصحاب التيارات اليمينية الأخرى.

وبالرغم من أن ثورة ٢٥ يناير منبتها هم شباب التيارات التي يمكن وصفها أنها علي يسار التيارات اليمينية المحافظة في مصر، إلا أن أنظمة الحكم بعد الثورة آلت لليمين مرة من خلال الإخوان المسلمين، ومرة أخري من خلال ما حدث بعد ثورة ٣٠ يونيو، من إعادة نظام الحكم لمن يملك خلفية عسكرية بمباركة المؤسسة العسكرية وتأييد الشعب.

إلا أنه علينا في تقييمنا للمرحلة الحالية لكيف تحكم مصر وما هي البدائل المستقبلية أن نقبل بعض المسلمات. أولها ما يتداوله الباحثون في علم الثورات عن أن الثورات غالبا ما تأكل أبنائها، وعليه فإن ما يحدث في مصر من تنكيل لطلائع الشباب والرموز الذين ساهموا في إشعال ثورة ٢٥ يناير هو أمر طبيعي.

الأمر الأخر هو أن من أهم مزايا الديمقراطية هي أنها تجربة تتطور من خلال أخطاء الشعوب في ممارسة حقوقها في الاختيار وقدراتها على التعلم من تلك الأخطاء وتصحيحها. وعليه فإن اختيار الشعب الديمقراطي للرئيس الأسبق محمد مرسي وللرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، وبغض النظر عن اختلاف تقييمنا لمدي صحة أو خطأ هذين الاختيارين، فهما ليسا نهاية المطاف، خاصة حينما ندرك أن تلك التجربة لم يمارسها المصريون منذ انتخابات الأحزاب لتولي حقيبة رئاسة الحكومة في عهد الملكية.

ولكي يمكننا الانتقال لمرحلة تقييم تجربة الحكم الحالية والفرص المتاحة للتغيير السياسي فعلينا أن نتفق على الآتي:

أولا: أن ثورة ٢٥ يناير لم تفشل ولكنها لم تأت بعد بثمارها. وعلينا أن نعي أن الثورة لكي تأتي بثمارها لا تحتاج لثورة أخرى، بل تحتاج أن يتولى قيادة البلاد، ممن يؤمنون بأهدافها.

ثانيا: أن ثورة ٣٠ يونيو جاءت كمطلب شعبي لتصحيح مسار ثورة ٢٥ يناير. وقد اختلف البعض حول مدى شرعية التصحيح من خلال ثورة أخرى مقابل التصحيح من خلال صندوق الانتخابات. إلا أنه علينا أن نسلم أن نزول الملايين في ٣٠ يونيو و٣ يوليو، كان استفتاءً قاطعا على تمرد غالبية الشعب على حكم الإخوان، في غيبة الوعي الكامل لمفهوم الديمقراطية.

ثالثا: كون أن الديمقراطية تخطيء وتصيب فهذا يعني أن اختيار الرئيس السيسي يحتمل الخطأ والصواب. وعليه فإن فكرة التفكير في بديل ينافسه في انتخابات ٢٠١٨ ليس كفرا وأننا في النهاية علينا أن ندرك أننا نبحث عن رئيس يخدم شعبه ويعمل على تحقيق طموحاته، وليس عن ملك يحكمنا. ولو كنا نبحث عن ملك يحكمنا لفضلنا البقاء على أسرة محمد علي.

رابعا: أن إصرار الكثيرين على استحالة وجود البديل للرئيس السيسي هو منهج اعتدنا عليه منذ عهود الرؤساء السابقين عبد الناصر والسادات ومبارك. إلا أن عبد الناصر مات والسادات قتل ومبارك سقط وجاء مرسي عاما واليوم يحكمنا رئيس آخر. وما زلنا لم نمل من هذه النغمة.

أن استمرار قناعة الكثيرين بعدم وجود بديل بالرغم من تعدد الرؤساء علينا يعني أن هذه القناعة تتعدي شخصية الحاكم وتعبر بشكل أكبر عن حجم وطبيعة المصالح التي يحميها الحاكم. وهذا هو محور حديثي في مقالي القادم.

التعليقات