حدائق البهجة (1)

أستطيع أن أدعي أنه واحد من أكثر الناس الذين تأثرت بهم، وعلموني وفتحوا عيني، ويشاركني ملايين ممن لم تكن الريشة أداتهم .. ظللنا لعقود يضمنا مكان واحد للعمل ومع ذلك لم أملك شجاعة الاقتراب شبه الحميم إلا بعد أن غادر كلانا المكان.. صانع البهجة، صانع الكتب، الذي حلم يوما، كما باح لي في حوار بالأهرام، أن يعمل "سائقا للترام"، فإذا به يقود مدرسة "النظر" الي إلي الجمال ، مدرسة" البصر "، لم يمن الله عليه ايضا فقط بالبصر بل أيضا بالبصيرة . الفنان الأستاذ " محيي الدين اللباد " ..

كان لطلته هيبة و لصمته المعتاد حضور ، وكانت طرقات مجلة" صباح الخير " هي نقطة الالتقاء المعتاد ، ان لم يتفضل بأريحية وبساطة ويشير الي بدخول امن وانا أطل برأسي اولا لالقي بتحية ، اتصورها عابرة ، حتي يدعوني " تعالي يا ماجدة " .. لامعن النظر عن قرب ، مؤثرة الصمت في حضرة " صانع البهجة" .. مرقت سنوات قبل ان اتحول الي " تلميذة " مباشرة له .. احمل كراسي والقلم واذهب اليه ، في مكتبه بمصر الجديده عدة مرات صباحية كل اسبوع .. يتكلم .. وادون .. ، يقوم من علي كرسيه الدوار يأتي بمجلة او بكتاب ضروري للسياق الذي " يقطره" لي .. كانت " القهوة" التي ارتشفها بعد ان تبرد غالبا ، في معيته ، هي العنوان الذي يدور تحته تلقي الدروس ، وانا اهاتفه في اول الاسبوع لاحدد مواعيد " الدرس" ، وكان رحمه الله بكل تواضع يدعوني تحته : " عدي نشرب قهوة " ، والحقيقة انني كنت اذهب لافك امية ، وامحي جهلا ، وأفك الخط لاستقرأ التعامل كمسئولة عن اصدر للطفل ، لما توليت رئاسة تحرير مجلة" علاء الدين"، التي تصدر عن مؤسسة الاهرام ، عام ٢٠٠٢.. أذكر اني هاتفته مستشيرة ، لما عرض الامر علي.. كنت احس ذعرا ، بالمعني الحقيقي للكلمة ، وترددت فعليا : امضيت عقودا بالصحافة ، في الشوارع ، محققة ، وتخصصت في استجلاء الحقائق بالحوار الصحفي ، وتحديت بكسر الحاجز بين المعرفة والناس عبر جسور من الكتب والحوارات ، لكني لم اكتب يوما حرفا للطفل فكيف اتولي مسئولية اصدار للطفل ؟ لن انسي كلمته المهدأة لروعي : " نتعلم".. وهكذا شجعني علي قبول المسئولية وربطها " بالتعلم" .. الذي فتح لي " ابواب حدائق البهجة " في عوالم صانع البهجة الاستاذ الفنان محي الدين اللباد ، الذي كان يؤثر وصفه بصانع الكتب "..، و هو الذي فتحنا وبصرنا علي حدائق متعددة للبهجة ، وعوالم نافذه من اللماحية المصحوبة الجمال والمغموسة في معرفة لم تقتصر علي "منابتنا" وان اعتزت وغاصت في هذه المنابت .. ما بين٢٥ مارس و

٤في سبتمبر ٢٠١٠عاش في مصر ، و غزت موهبة و معرفة " صانع الكتب" بلادا غير بلادنا وحطت علي كل ماهو" اصيل " ، وفتحت ، وفتحت ( بتشديد التاء) كل ماهو اصيل ايضا ... لن انسي يوما كنت فيه علي باب واحد من اكثر معارض الكتب الفريدة في فرنسا ، في منطقة قصدوا ان تكون مركزا للتنمية البشرية و المعرفية ، " مونتروي" ، فإذا بلوحة في حجم البوابة تتصدر اعين الداخلين " قط" ، اعرفه جيدا .. واحد من ثمار بهجة اللباد الكبير هو العنوان واللوجو الذي وجدوه متصمنا رسالتهم الجمالية والمعرفية .. وقفت محملقة " لانتمائي " ودخلت بخطي اكثر ثقة .. جئت من موطن هذا الفنان..

استعير من تقدمة ل " اللباد الصغير" الفنان احمد اللباد الذي يزهر بحدائق المعرفة ازاهيره الخاصة ، فيما كتبه مؤهلا المتلقي لالبومات " نظر" لمحيي الدين اللباد وتوصيفه ل " اللباد " الكبير انه " فنان البصر والبصيرة" .. وهو " الفنان البصري" او " visual artist" ،.. رسم للاطفال ورسم للصحافة وصمم الكتب والاغلفة والملصقات واسس للعديد من المشروعات الثقافية " الثقيلة " المصرية والعربية ، للصغار والكبار ، واشرف عليها تحريرا و فنياىونال التقدير المحلي والعالمي الذي تمثل في ترجمة واعادة نشر اعماله ولا سيما الكتب المتخصصة التي حصدت جوائز رفيعة .. حاضر .. وحكم.. ونقد .. كتب في كل القضايا البصرية وفسرها و ربطها بالسياسة والمجتمع، بعد ان جدف بها البعض بهمة بعيدا عن "شاطئ الحياة " لتصبح " فنية" و نخبوية بامتياز للاسف.

اتذكر درسي الاول معه .. في محو امية " العين " .. كان لدي، بعض المخزون من رافدين اساسيين .. احتكاكي لثلاثة عقود بواحدة من اغني معاقل الفن التشكيلي في مجلة صباح الخير ، يتراسني وازامل فنانين ورسامي كاريكاتير .. اللباد والليثي وحجازي ، حسن فؤاد لجمال كامل ، واعيش في حضرة مكتبة تشكيلية نادرة، جمعها من كل ارجاء الدنيا " جمال الغيطاني" الذي لم يكن يحط الحرف الاول يوميا ، فوق ورقه ، بغير وقت متعين " لثقافة العين " ، وكنت بكامل حيائي ، اطرق بابه في تلك اللحظة لانتشي بخطو وئيد ، وافك شفرات ما لم اعرفه عبر غيره ..

في الدرس الاول مع اللباد ، كنت حملت كراسا واقلاما وكأني ذاهبة لمحاضرة ، ولم استعمل فيما بعد، تلك الكراسة الافيما ندر، ولمجرد تدوين عنوان او ماشابه ، اما ما تلقيته ، فقد استنشط فيه البصر والبصيرة ، و واستنهضت المسام وشحذت العقل ، وائتنست بالرؤية ، و عززت القناعات ، و استقويت بالمواقف اللبادية ، واسترشدت بالحس ، واستقر في ضميري ان "الخيارات "، مهما تكن صعبة ، عليك ان تعي انها" انت ".. وليس ذلك منبت الصلة عما نقوله عن " اللباد " الكبير في مواقفه وفنه ، الذي "تعطرت " مساحات الاقتراب منه ، بأنفة وكبرياء واعتزاز بكرامته وكرامة فنه ، وكنت شاهدة في بعض الاحيان ، التي حظيت بها ، بالتعلم ، علي هذه الانفة وذلك الكبرياء الذي مكنه من ان يضع نفسه ، حيث ينبغي ان يكون .. اتذكر واقعة في واحدة من كبريات دور النشر ، ان لم تكن اكبرها ، كيف رفضها و اعتذر عن التعاون ، رغم كل المغريات المادية ، لان رادره وحسه ، كشفا ، مقدارا من الجهل المغطي بالمال و النفوذ و بما لا يليق بالمكانة التي يضع فيها الابداع ..

مد الجسور مع " اللباد" ، لاجيال لم تعشه ، كما هو الحال مع غيره ، من " اسطوات ثقافتنا ، هو ما يتعين علينا التشبث به ، لو أردنا امتدادا اصيلا ، او سعينا لنجاة من " الغرق" .. فليس لك من خيار ، ولا فرع دون جذور .. و في الامم ذات الوعي لا تحدث القطيعة ، وتأتي الاضافة ، بالاستيعاب للاصول ، والبناء علي الاساس ، " الوعي " لا يتجزأ ، ان اردته في الفرز السياسي ، فعليك الا تفصله عن الفن ، و ان استهدفته في الفن ، فلا تستأصله او تقصيه عن التعليم ، قل ان الاساس بصر و بصيرة ، عقل يتزود ولا يصح بغيرهما .

نقلا عن جريدة "المقال".

التعليقات