ديستوفيسكى وكافكا فى مقاعد البرلمان

من منا فى هذه الأيام لم يشعر أنه قد طرأ شىء على حركة الزمان والمكان فى مصر، فأفسد جوهرها وروحها، فسمات الجهل والغطرسة والصلف أصبحت سمات ممنهجة، والأيام كلما مضت واتصلت زاد الإحساس باليأس، ولا تكاد تمضى قصة حتى تأتى قصة أخرى أسوأ وأشد قبحا، ترمى بتداعياتها الثقيلة، وتجعل الكثيرين يعودون إلى أنفسهم، ويستسلمون لليأس.

-2-

ما حدث فى الأسبوع الماضى من تصريح لأحد نواب البرلمان بأن «أدب نجيب محفوظ خادش للحياء ولو كان حّيا لعاقبناه»، والتصديق على قانون الجمعيات وهو شهادة وفاة معلنة للعمل الأهلى، وغلق مكتبات «الكرامة» فى الأحياء الفقيرة، يفوق خيال الكاتب الكولومبى غابرييل ماركيز الذى اعتاد أن يمزج الأحداث اللامعقولة والخارقة بتفاصيل الحياة اليومية والحقائق السياسية فى أمريكا اللاتينية، واستفاض فى وصف سحرها وتناقضاتها فى أذهان الملايين، مما جعله رائدا للواقعية السحرية، وفاق خيال الكاتب التشيكى «فرانز كافكا» رائد الكتابة الكابوسية فى الأدب الروائى، والذى تجاوز الكاتب الروسى «ديستويفسكى»، ولقد تعلّم فرويد سلوك النفس البشرية من كتاباته، حيث إن شخصياته تعيش أقصى حالات الضياع، وتنطوى كتاباته على إدراك عميق للنفس البشرية.

-3-

مكتبات «الكرامة» التى تم إغلاقها، وهى مبادرة قامت بها «الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان»، لإنشاء خمس مكتبات عامة فى أحياء القاهرة الشعبية والأقاليم، وتقدم خدمات القراءة والاستعارة بشكل مجانى إيمانا منها أن العلم والمعرفة ركائز أساسية فى أى دولة ترغب فى التقدم، ولأن الإنسان الواعى يستطيع أن يفهم حقوقه ويدافع عنها ويساهم فى تطوير مجتمعه، ولأن هذه الأحياء الشعبية تكون غالبا مزدحمة، فإن توفير مكان ليقرأ فيه الشباب والأطفال يصبح ضرورة إنسانية قصوى، والكثير منهم لديهم مواهب وقدرات إبداعية يستلزم تنميتها بالقراءة، لذلك فعندما تساهم هذه المكتبات فى بناء جيل مثقف إذا دخل بعض أفراده البرلمان لن يطالبوا بمحاكمة نجيب محفوظ أو طه حسين أو يوسف إدريس لأنهم يكونون على معرفة جيدة بهم.

-4-

القيود المجحفة التى يتضمنها قانون الجمعيات، هو أقرب لقانون العقوبات، سوف تقوّض فعاليات منظمات المجتمع فى سد الفجوات التى لا تستطيع الحكومة القيام بها، قدر عظيم من منظمات المجتمع الأهلى نشطة فى مجالات التنمية المختلفة، وعلى وجه الخصوص فى مجال الخدمات الصحية، فثلث الخدمات الصحية تؤديها الجمعيات الأهلية، وفى مجال التعليم أنشأت العديد من المدارس والمعاهد العلمية والمستوصفات الصحية والوحدات التأهيلية والدور الرعائية التخصصية عالية المستوى، بالإضافة إلى جهودها المتميزة فى المناطق العشوائية، من خلال تطوير البنية الأساسية (المساكن والصرف الصحى)، وتوفير فرص عمل.

-5-

إن اليأس المطلق هو أسوأ المشاعر التى يبتلى بها الإنسان، عندما يشعر بأنه كالطائر المحبوس فى قفص، عاجز عن التحليق، ولا يسعنى هنا إلا أن أختم بكلمات لإحدى شخصيات ديستويفسكى التى تصف حالنا بدقة:

«إن الكذابين الذين ظلوا طوال حياتهم يمثِّلون، يبلغون أحيانًا من عمقٍ تقمصهم للدور الذى يمثلونه أنهم يرتعشون انفعالاً ويبكون، رغم قدرتهم على أن يقولوا لأنفسهم فى الوقت نفسه أو بعد دقائق: أنتَ تكذب أيها الكاذب العريق! أنت تمثّل حتى فى هذه اللحظة، رغمَ غضبك (المقدّس) ورغم هذه الدقيقة المقدسة من الغضب».

** نقلا عن المصري اليوم

التعليقات