العسكري والسياسي

 

منذ أن حل العسكريون الأحزاب في عام ١٩٥٢ بمباركة الإخوان وقتها والسياسة في مصر باتت رهينة لقوي ظاهرة تكرس السلطة في يد العسكريين وقوي أخري كامنة تلعب دور البديل الخفي بين الحين والأخر وهي جماعة الإخوان المسلمين. وصاحبت مبادرة السادات في عام ١٩٧٦ بإعادة الأحزاب تشريعات معيبة لمباشرة الحقوق السياسية وإنشاء الأحزاب وتنظيم المجتمع المدني ضمنت استمرار الحصار للأحزاب السياسية وتجميد قدرات الفصائل التقدمية اليسارية والليبرالية على التواصل مع المجتمع. وقد أسهم هذا النموذج في تجريف الوطن من كوادر سياسية متنوعة وقادرة على الترويج والتأثير والتعبئة والمنافسة. كما ساعدت مركزية الحكم على إهمال الدولة لأليات وأدوار المجالس المحلية مما أدي إلى فسادها وتوغل هذا الفساد ليشمل كافة أركان الجهاز الإداري للدولة ليخلق مناخا طاردا للكفاءة والقيم الأخلاقية من العمل العام. واستمرت الانتهاكات الأمنية أيضا في عهد مبارك لكافة محاولات إحياء العمل السياسي خارج إطار الحزب الحاكم. وجاء مخطط توريث الحكم لجمال مبارك لينهي حكم والده في ٢٠١١ بعد أن تخلي الجيش عنه وأعلن وقوفه مع الشعب. وفي رأيي أن مخطط التوريث قام به آخرون ليس بينهم الرئيس الأسبق نفسه. ولذا فلم يكن مستغربا أن مبارك حينما تنحي كلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد ولم يلجأ لأية سلطة مدنية. وشهدت مصر خلال السنوات الست الماضية ما يمكن وصفه بلعبة الكراسي الموسيقية بين المؤسسة العسكرية وجماعة الإخوان المسلمين مع السماح لبعض الشخصيات المدنية بالمشاركة الشرفية في هذه المسرحية الهزلية للاستحواذ على السلطة.
ومن المدهش أن يخرج علينا المنتقدون للأحزاب والحقوق السياسية، والمصرون على أنه لا بديل سوي الرئيس السيسي باتهاماتهم بالضعف والفشل والعمالة والخيانة للنشطاء والمعارضين السياسيين والحقوقيين والمهتمين بالشأن العام. والأكثر غرابة أن يدعي البعض أن ما حدث في ٢٥ يناير هي مؤامرة أدارها الغرب ضد مصر، وكأن مصر قد تم اختزالها في أنظمتها الحاكمة.
وقد كنت من ضمن الذين تصوروا أن الرئيس السيسي، بالرغم من خلفيته العسكرية، سيكون مختلفا وأكثر فهما لاحتياجات المصريين بعد ثورتين ضد نظم بوليسية وفاشية، وأنه سيكون أكثر حرصا على إخراج مصر من عثرتها بإصلاحات سياسية تحيي من إرادة الشعب، وتعمق من ممارسة حقه في التعبير والاختيار في إطار توازن حقيقي بين مؤسسات السلطة وصناعة رأي عام مستقل، وتعلي من مبادئ الحرية والعدالة والمساواة في الحقوق. إلا أن كافة الاولويات والسياسات التي أدارها الرئيس كانت على حساب مزيد من التردي للحياةالسياسية والحريات والحقوق.
وقد اقتنعت أخيرا، وربما تكون قناعتي جاءت متأخرة، أن ما ترسخه العقيدة العسكرية " المصرية " الراهنة في وجدان وعقول ضباطها وجنودها من مبادئ وأفكار وثقافة لا تتفق نهائيا، إن لم تكن تتعارض، مع إدارة العمل السياسي الحديث في دولة تدعي أنها تتبني مسارا ديمقراطيا في نهجها ونظمها وتعاملها مع المجتمع المدني بمختلف شرائحه وأطيافه وفئاته. وبت قانعا أن الفرصة - في ظل هذا المناخ-  منعدمة في أن تتوافر صفات ومهارات العمل السياسي للقائد العسكري.  ولا يعني هذا الإقلال من قيمة مواصفات الشخصية العسكرية أو التهوين من أهميتها أو مميزاتها. وأنا لست مؤهلا لإبداء الرأي في مدي موائمة تلك العقيدة لمتطلبات وكيفية إدارة القوات المسلحة وأفرعها. كما أني لا أستطيع الادعاء أني ملم بكافة أركان العقيدة العسكرية المصرية، ولكني اصبحت مدركا للشواهد التي تثبت استحالة نجاح العسكريين في إدارة الشؤون السياسية للدولة.
العقيدة العسكرية تقوم على حتمية التوحد ورفضها للاختلاف، ووصفها للمرحبين بثقافة الاختلاف والداعين لها أنهم يعملون ضد مصلحة الوطن وأمنه وتماسكه ويعطلون من مسيرة الدولة وتقدمها، وأنهم مدعاه للانقسام والضعف.  أما في عالم السياسة فالاختلاف وقبوله فرصة لاتساع مجالات الفكر، وإدراكا لكافة الاحتمالات والافتراضات، واستفادة من تنوع العقول والمهارات والخبرات، ومصدرا لثراء الحلول والتوجهات المتعددة، وضمانة للوصول إلى رؤية كاملة الأبعاد. كما يسهم قبول الاختلاف في زيادة حجم المشاركة الاجتماعية الايجابية في العمل نحو تحقيق أهداف التنمية. والحقيقة التي لا يستوعبها العسكريون أن استيعاب الاختلاف والترحيب به هي الوسيلة المثلي لتجنب الخلاف والانقسام والافتراق.
العقيدة العسكرية تختصر مصلحة الوطن في الحفاظ علي أمنها القومي والدفاع عنه، وتعتبرها المصلحة الوحيدة التي يجب على كافة أفراد الشعب الالتفاف حولها والتضحية من أجلها. وتحدد في حفاظها على تلك المصلحة  مهاما محددة تتعلق بحماية حدود الوطن والدفاع وسيادتها، والحفاظ علي سلامة وقوة الجيش، وتأكيد هيبة الدولة من خلال ترسيخ سيطرة النظام الحاكم علي شئون الوطن، وتأمين أفراد النظام الحاكم ومنشئات الدولة والبعثات الأجنبية وهيئاتها. إلا أن العمل السياسي تحكمه إلى جانب أهمية الحفاظ على أمن الوطن مصالح أخري لا تقل أهمية تتعلق بمتطلبات واحتياجات كافة الشرائح الاجتماعية الموجودة في هذا الوطن. ويتفهم حق التنافس بين أصحاب المصالح الممثلة لتلك الشرائح الاجتماعية من واقع قواعدهم الشعبية المستفيدة والأحزاب السياسية المؤمنة بتلك المصالح من خلال الدفع بمرشحيهم للفوز بأصوات الناخبين لعضوية المجالس المحلية ومجلس النواب ورئاسة الجمهورية. وتدين العقيدة العسكرية فكرة تنوع المصالح بينما ترحب بها النظم السياسية.
والعقيدة العسكرية تدعو للحذر والحيطة والتشكك وعدم الثقة فيمن هم خارج المنظومة. وتبرر تلك العقيدة هذا التوجه إما لقناعة بضعف الإدراك للمدنيين – مثلا - للأخطار التي قد تحيط بهم أو لسهولة تجنيدهم واستغلالهم من أعداء الوطن. ومن هنا تأتي  القناعة بتهميش إرادة المجتمع المدني من خلال حجب المعلومات عنه، ومراقبته، والسيطرة على أليات صناعة الرأي العام به، والترويج لحالة الخطر والتحذير من عواقب المؤامرة، وتسخير الشعب لمزيد من التحمل والتضحية والعمل دون مقابل منصف.  أما الحياة السياسية فتقوم على فكرة تحرير الفرد والمجتمع من الخوف على أمنه وعلى عوزه مما يحقق للجميع حرية الإرادة والاختيار. كما تسعي الحياة السياسية للارتقاء بمستوي إدراك المواطن ووعيه بما يحدث حوله وفي العالم كله من خلال تشريع حقه في الحصول على المعلومات وتداولها والتعبير عن رأيه حول كافة القضايا المؤثرة فيه مباشرة أو بشكل غير مباشر. وتتطلب الحياة السياسية الشفافية بل وتشرع بفرضها على كافة أجهزة ومؤسسات الوطن العامة والخاصة.
العقيدة العسكرية تعظم من فكرة الاستعداد للموت والاستشهاد في سبيل الوطن. وتتبلور تلك الفكرة في عدد من التوقعات. الأمر الأول هو إعلاء قيمة وحب الضابط والجندي للوطن عن مثيله المواطن المدني. والأمر الثاني هو أن الشعب عليه أن يكون مدينا للجيش لاستعداد أفراده بالتضحية والفداء. أما الأمر الأخر هو عدم الوقوف كثيرا أمام قيمة حياة المواطن حيث أن الوطن أهم من حياة المواطن.  وبالرغم من نبل وبسالة فكرة الاستشهاد إلا أن ملاءمتها لتصبح شعارا لتخفيف مشاعر المصريين تجاه الموت لأسباب غير طبيعية لا تتناسب مع حق المواطن في الحياة. والحياة السياسية تسعي للحفاظ علي حياة الإنسان وتضع السياسات التي تفعل من هذا الهدف الأسمى. والنظم السياسية تتعامل مع موت المواطن بسبب الإهمال أو الإجرام أو الكوارث الطبيعية أو الإرهاب أو الحروب بنفس درجة الأهمية والمسئولية، والسياسيون يتخذون الاجراءات والتدابير والقرارات التي تحد من الخسائر البشرية وتحقق الأمان لكل مواطن بغض النظر عن طبيعة عمله وأسلوب حياته.
العقيدة العسكرية ترسي طبيعة للحياة العسكرية تختلف عن طبيعة الحياة الاجتماعية للمدنيين. تتطلب الحياة العسكرية من العسكريين الجدية والاتزان والحرص والتفاني والامتثال لأوامر الرتبة الأعلى وتنفيذها دون جدل. والنظام العسكري صارم يقوم على خشونة الطبع والبعد عن الترف والانضباط والالتزام بروح المسؤولية والعمل من أجل المصلحة العامة للجيش. ولا يختلف أحد أن ما ترسخه العقيدة العسكرية هي صفات محمودة قد نحتاجها في الحياة المدنية، إلا أنها لا تمثل كافة الاحتياجات التي تفرضها الحياة على أفراد المجتمع المدني والتي هي بطبيعتها أكثر تنوعا وتعقيدا. ويدرك السياسيين أن حرية الفرد في اختياره لعمله وعقيدته وتوجهاته وتنقله وعلاقاته بالأخرين والتعبير عن نفسه، وحقه في التملك والعدالة والمشاركة السياسية، وحقه في التمتع بالخدمات الاجتماعية وإشباع حقوقه الاقتصادية هي الأسس الرئيسية لبناء المجتمع. كما يعتقد السياسيون أن الشعب هو مصدر السلطات من خلال حق المجتمع المدني علي تنظيم نفسه، وحق الأحزاب في تمثيل مصالح شرائح المجتمع لتداول السلطة من خلال انتخابات حرة نزيهة، وأن دولة المؤسسات والقانون والمجتمع المدني هو ما يحقق تقدما للأمم.
المؤسسة العسكرية عليها أن تدرك أن المصريين يحبون جيشهم ويؤمنون بأهمية الحفاظ على قوة وسلامة وهيبة الجيش وحجته في كافة أمور الأمن القومي، إلا أن هذا لا يجب أن يتأتى من خلال تنصيب العسكريين تلقائياً لمقاليد الحكم بدون ان ينخرطوا وقتاً كافياً  في الحياة السياسية بعد ان يخلعوا البدلة العسكرية   . واعلم  أن التحدي الحقيقي فيما عرضته هو خلو الساحة من المطبخ السياسي القادر على إفراز الكوادر المدنية المؤهلة لإدارة الدولة. ولكننا ندرك جميعا أن هذا الواقع تم فرضه علينا منذ ٦٤ عاماً ونتائجه باتت واضحة أمامنا جميعا. علينا أن نحرر أنفسنا من دائرة الاختيار المغلق بين العسكريين والإخوان . علينا أن نمتلك شجاعة التحرر من هذا الاختيار وأن نعطي الثقة لكفاءات مدنية نختبر قدراتها ونعمل علي نجاح التجربة. وقتها لن نحتاج إلي قائد منقذ أو مخلص، بل كل ما سنحتاجه هو سياسي يشغل منصب الرئيس نتابعه ونحاسبه يدير الدولة طبقا للدستور والقانون لمدة أربعة سنوات أو ربما ثمانية.
التعليقات