هلّت بشاير معرض الكتاب

(1)

فى معرض الكتاب يأتينى العالم فارداً جناحيه، يعانقنى ويكاد يمزق ضلوعى، يلقى بى فى أتون الحرب وينتشلنى ليغمرنى بفيض السلام، يقذفنى إلى أنهاره ومحيطاته وبحاره، يشهر فى وجهى مفاتيح المدن العتيقة، يتدفق من أبوابها متغطرسون ومتحابون متفائلون ومتشائمون ومتمردون، تنهمر الصور والكلمات والحروف من بين دفتىّ الكتاب، تسقط عروش، وتلقى أشعار، وتسيل دماء وتتبعثر التواريخ، وتتراقص الأحلام، وأتوه فى رحلات ابن بطوطة وأنا أغوص فى رحاب كتابه الشّهير «تحفة النّظار فى غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، ولا أكف عن الضحك مع الجاحظ وهو يلقى بنكاته وقصصه المضحكة عن البخلاء والأغبياء.

(2)

أتسلل إلى حارات التاريخ المفتوحة، تارة أختزل العصور والأزمنة، وتتدافع أمامى الأحداث، هيلين وطروادة وكعب آخيل والمغول والتتار وجنكيز خان والحاكم بأمره، وتارة أخرى تغشى أنفى رائحة اليود البحرى والمانجو والليمون والبهارات والخبز الطازج والبخور والزعفران، ثم أعرج على حقول الذرة والقمح والقطن، وأنتقل من لفحة قرص الشمس الحارق إلى صقيع الشتاء البارد، وأمتزج بألوان قوس قزح، وتخطفنى قصص الحب فأركض مع العشاق تحت المطر فينعش وجهى رذاذه، ويعاودنى الحنين إلى الليالى فأسترق السمع لشهر زاد وهى تحكى حكايات «المدينة المسخوطة»، و«الحمال والثلاث بنات»، و«الملك قمر الزمان ابن الملك شهرمان».

(3)

أركض فى دروب الخيال بين الشرق والغرب، يمتلئ الفضاء نثرا وشعرا وعلما وشخوصا وخيولا وسيوفا وسفنا وطائرات وحروبا عالمية باردة وأخرى إلكترونية.

أصبح أكثر شغفا بمعرفة المجهول وارتشاف رحيق الغيب، تهدهدنى أشعار «سافو»، وأرهف السمع لخطوات تلميذاتها الثلاث «أتيس»، «تيليسيبا» و«ميجارا» وهن يرددن أشعارها: «خاشعات أمام بهائه، سترت النجوم وجوهها المتوامضة، حين ظهر القمر الفتان، مكتمل الاستدارة، وراح يضىء الأرض بأشعته الفضية».

(4)

تأسرنى الطبعات الجديدة لديستوفسكى وكافكا وتشيكوف وجوجول، وتبهرنى أغلفة روايات نجيب محفوظ، ثم تومض عيناى عندما ألمح مجلدات «فريد الدين العطار النيسابورى»، و«جلال الدين الرومى»، و«ابن عربى»، و«الشيخ أبى بكر الشلبى»، كبير المشايخ الصوفية، ويشدنى نداء «أنا الحق» لقتيل الله فى سبيل الله وغريق البحر الموّاج «الحسين بن منصور الحلاج».

ملوك وصعاليك ومؤامرات ودسائس واحتفالات ومواكب ونهب وسبى ونخاسة وكنوز وخلفاء ومجاعات وثورات يسردها، «ابن تغرى»، «المقريزى»، و«ابن كثير» و«أبوالفرج الأصفهانى»، و«عبدالرحمن الجبرتى».

(5)

أتذكر مكتبة الإسكندرية القديمة التى أسسها اليونان، وبيت الحكمة الذى أسسه الخليفة العباسى المأمون، والتى كانت أشبه بالمكتبة العامّة والمجمع العلمى الذى يلتقى فيه العلماء والفلاسفة ويتناقشون ويتدارسون ويتحاورون فيما بينهم، ويأخذنى العجب بالمأمون الذى جعل لكلّ من يقوم بترجمة كتاب أجنبى وزنه ذهبًا، وأبكى حين تسرد حرائق المكتبات ونهبها وجعل جلود أغلفتها نعالا لمن قاموا بحرقها، وأتذكر «ابن رشد»، وأرى دموعه عندما حرقوا كتبه ونفى خارج بلدته.

(6)

أما متعتى الحقيقية فهى عندما أجد نفسى بين أكوام الكتب «بسور الأزبكية»، أثمان زهيدة وكنوز من الكتب الثمينة ومناوشات مع البائعين الذين يعرفون النهم للمعرفة والاقتناء من الزبون العابر الذى يكتفى بتقليب الكتب وزم شفتيه، وعندما أنتهى من اقتناء عدد لا بأس به من الكتب أتجول ما بين ملتقى الإبداع، والمقهى الثقافى وكاتب وكتاب وملتقى الشعراء حيث الأصدقاء والكتاب والأدباء والشعراء، وعند الانتهاء من مناقشاتهم يسرعون الخطى للمسامرة والجلسات الدافئة بعد الجدل العاصف.

متعة الاحتفاء بالكتاب لا تضاهيها متعة، إنه الظمأ الذى لا يرتوى أبدا، وهو الانغماس فى التفاصيل الصغيرة، فالكتاب هو السمير والصديق الذى لن يتخلى عن صداقتك بسهولة ولن يتركك لوحدة قد تطول.

التعليقات