سُمعة والقصرى وزينات... أحياء يضحكون ويرزقون!!

الإنسان هو ابن الآلة التى تظهر فى العصر الذى يعيشه، نعم هو من اختراعها، إلا أنها فى نهاية الأمر تفرض قانونها عليه، وكأنها هى التى تخترعه وتعيد بناءه من أول وجديد، أم كلثوم ابنة زمن (الميكروفون)، وليلى مراد ابنة (السينما)، ونانسى عجرم ابنة (الفيديو كليب)، مثلا لو تصورنا أن أم كلثوم قد بدأت الآن مشوارها بنفس المواصفات القياسية فى الصوت الذى امتزج فيه عناق نادر بين الجمال والكمال، هل كانت أم كلثوم 2017 ستحقق النجاح الذى نالته فى الماضى؟ أؤكد لكم لا، أقصى ما يمكن أن تصل إليه هو أن تُقدم أغنيات تراثية من داخل دار الأوبرا، يُقبل عليها عدد محدود من السميعة، بينما نعيش الآن زمن التفاعل مع حالة وملامح وإيقاع المطرب على المسرح وليس فقط إمكانياته الصوتية، حيث صار الصوت فى المرتبة الثالثة، النموذج الصارخ والصحيح جدا الذى من الممكن تطبيقه عمليا المطربة آمال ماهر، فى البداية توقفوا عندها كصوت استثنائى تجيد أداء أغنيات أم كلثوم الطربية، كنا فى مطلع الألفية الثالثة، تحمست لها الدولة وتبنتها الإذاعة المصرية، بعد أن اكتشفها المايسترو صلاح عرام، قائد الفرقة الذهبية، وبعدها التقطها الموسيقار عمار الشريعى فأصبحت تنسب إليه، ولم يكتف عمار بأن يقدمها فى أغنيات أم كلثوم القديمة، بل لحن لها أيضا أكثر من أغنية كلثومية الطابع، وتقمص هو روح الموسيقار رياض السنباطى فى التلحين، ومن أشهر ما قدم لها فى هذا الاتجاه وبشعر عبد السلام أمين (عربية يا أرض فلسطين)، لم يتجاوب الجمهور مع آمال ماهر إلا فقط عندما نزعت عن نفسها ثوب أم كلثوم وغنت بمفردات هذا الزمن.

هل يعنى هذا أن ينقطع تماما التواصل بيننا والماضى، الحقيقة هى أننا نأخذ من الماضى فكرة تصلح لزماننا مثلما حدث مثلا فى ثورات الربيع العربى، كانت أغانينا القديمة فى الخمسينيات والستينيات وحتى مطلع السبعينيات هى زادنا، قصيدة مثل (أنا الشعب) شعر كامل الشناوى وتلحين محمد عبد الوهاب وبصوت أم كثوم، عادت للحياة مرة أخرى، بل أكثر من جيل عندما استمعوا إليها لأول مرة اعتقدوا أنها قصيدة مجهولة لأم كلثوم، تتغنى بالشعب الذى فجر ثورتى 25 و30 (أنا الشعب أنا الشعب لا أعرف المستحيلا)، كثيرا ما نستدعى ليس فقط الأغانى التى تعزف على أفراحنا وأحزاننا، ولكن طرحت شبكات التواصل الاجتماعى التى نعيش جميعا تحت لهيب نيرانها، باعتبارها الأكثر تأثيرا وحضورا، تنويعات جديدة على التفاعل بين الجميع على أرض المعمورة، ولم تكتف بهذا القدر فلم تعد حكرا على من لحقوا بها، لكنها تخطت حاجز الزمن، وصار من غادروا حياتنا قبل اختراعها تلاحقهم هذه اللسعات التى طرحها النت بحلوها ومرها، فلقد تم استدعاء عبر «اليوتيوب» العديد من رجال السياسة والفن الذين قلنا لهم مع السلامة وإلى اللقاء، وفعلا تكرر اللقاء إلا أنه على النت وليس فى السماء، فلقد عادوا إلينا، نراهم يتواصلون معنا افتراضيا ويشاركونا بالرأى المباشر أو الساخر فى كل مناحى الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والفنية، دائما هناك تعليق ما منسوب إلى إسماعيل ياسن وعبد الفتاح القصرى وزينات صدقى وعادل أدهم وتوفيق الدقن وفريد شوقى وغيرهم من الفنانين أصحاب البصمة الخاصة، كما أن لرجال السياسة أمثال جمال عبد الناصر وأنور السادات والملك فاروق وغيرهم آراء يعتد بها، فى هذا الشأن، ودائما ما تحظى بأكبر قسط وافر من التعليقات، باعتبارها تتعرض للحظة الراهنة كما تم استنساخ مثلا شخصيتى «سى السيد» و«الست أمينة» من ثلاثية نجيب محفوظ لنجد أمامنا يحيى شاهين وآمال زايد اللذين جسدا الشخصيتين فى الفيلم الشهير «بين القصرين» الذى أخرجه حسن الإمام قبل أكثر من 50 عاما، لكى يقدم كل منهما رأيه أيضا فى حدث تعيشه الأمة العربية، الروح الساخرة حاضرة بقوة فى كل موقف، ناهيك عن زكى رستم الذى كان بطل أكثر من حدث، لأن لديه ومضة خاصة لا تتكرر فى التعبير، وآخرها عيد الحب من خلال الفيلم الشهير (نهر الحب) متنكرا فى دوره (طاهر باشا) وهو يقول لفاتن حمامة (نوال)... (عيب قوى الست اللى تطلب من جوزها هدية فى عيد الحب).

شبكات التواصل أحدثت تغييرا جوهريا فى كل شىء تستطيع أن تقول إن الإنسان قبل تلك الشبكات غير الإنسان بعدها.

لولا تلك التقنية ما كان من الممكن أن تنجح ثورات الربيع العربى التى كان وقودها الشباب وقد تواصلوا على شاشات الكومبيوتر، وكانت ولاتزال أحد أهم الأسلحة، والتى من خلالها نستطيع أن نرصد توجهات الرأى العام، وسوف تكتشف أن (الميديا) الجديدة، والتى بدأت وكأنها حكرا على الشباب، إلا أن ما حدث بعد ذلك هو أن قطاعا وافرا ممن تخطوا مرحلة الشباب بعقود اكتشفوا أن العالم الافتراضى كالوقت لا تستطيع أن تتجاهله، فهو إن لم تقطعه قطعك، فصاروا أيضا فاعلين ومشتبكين على لوحة (الكيبورد).

الزمن لا يعترف سوى بالتواصل عبر كل المستجدات التى يطرحها العصر، موجات الإذاعة اللاسلكية بدأت فى الحرب العالمية الأولى ولعبت دورا محوريا فى الحرب الثانية وكانت خطب الزعماء يتم تناقلها عبر أثير الإذاعة لها مفعول مدوٍ أقوى من القنابل التى تلقيها الطائرات، مصر مثلا أعلنت منها ثورتها فى 23 يوليو عام 1952، وهو ما فعلته أيضا سوريا قبلها ببضع سنوات، وفى أثناء العدوان الثلاثى على بورسعيد عام 56 كان الهدف الاستراتيجى لإسكات صوت مصر هو ضرب الإذاعة. وهكذا نكتشف أن الإنسان دائما هو ابن مستحدثات التواصل.

الجديد هو أننا قررنا اعتبار الماضى جزءا حميما من الحاضر، ووجهنا دعوة لعدد من رموزه فصاروا عبر تلك الشبكات يتنفسون ويتفاعلون وينفعلون ويسخرون معنا أحيانا وعلينا أحيانا، الزمن لا يتوقف ولكننا نأخذ من ملامح الماضى ما نعيد من خلاله قرأتنا وفهمنا للحاضر، وهو ما أعاد الحياة والاعتبار لعدد ضخم من فنانى الكوميديا الذين لم تغب عنا أبدا قفشاتهم، سُمعة والقصرى وزينات لا يزالون أحياء يرزقون ويضحكون عبر شبكات التواصل الاجتماعى.

التعليقات