الحصاد المر

الناس منزعجة مما تقرأه فى صفحات الجريمة وما أصبح ينشر فى بعض الصفحات الأولى للجرائد من اختلالات فى السلوك وما يعرض على الشاشات.
من وجهة نظرى المتواضعة، هو الحصاد المر لعقود خلت من الوعى بأن لكل قرار اقتصادى مردودا اجتماعيا. نحن بحاجة للتيقن من صحة نظرية الأوانى المستطرقة. وتعال نتساءل: هل هناك مبالغة لو قلنا إن الأمن الاجتماعى جزء من أمن مصر القومي؟ إن استعدال التوازن الاقتصادى فيما بين فئات الشعب، هو العمود الرئيسى لهذا التوازن؟ حتى الآن لا يمكن إغفال اتجاه الدولة إلى نوع من المعالجة الجذرية فيما يتعلق ببعض الجوانب. على سبيل المثال القضاء على العشوائيات وعلاج فيروس «سى». لكن هذا ليس كل شيء. يمكننا القول إنها إرهاصات، لا تنم عن وضوح كاف للوجهة. حتى الآن الرؤية أو الوجهة الاقتصادية للحكومة غير واضحة، على الأقل فى عدالة توزيع التبعات المترتبة على ما نقول إنه إصلاح اقتصادي، الذى وقع العبء الأكبر من تداعياته على الشرائح الفقيرة والمتوسط. هناك شعور بنوع من التردد الحكومي، أو استشعار الحكومة لحرج إزاء استكمال منظومة ضريبية أو إصلاح ضريبى يعيد التوازن فى توزيع الأعباء. فلا ضرائب تصاعدية ولا ضرائب رأسمالية على البورصة، واقتصر الأمر على مزيد من التحميل على الفئات الممسوكة فعليا بالضرائب ومختنقة حتى من قبل أن يعوم الجنيه.

ثورة 30 يونيو لها جناحان. أحدهما سياسى وعبر عن نفسه فى استقلالية القرار السياسي، ولابد أن يعبر عن نفسه فى رؤية اقتصادية متكاملة وجلية، تعدل الخلل وتجعل تحمل التبعات عادلا. نحن بحاجة إلى ألا تعتمد الدولة على أريحية الأثرياء، لتحقيق التوازن الاجتماعي. بحاجة للربط بين ما يفزعنا من ممارسات فى الشارع المصري، وبين الاقتصاد وسياسات الداخل إجمالا. ما نراه على سطح الشارع ، وما يكمن فى زواياه لا يمكن حصره فى باب الأخلاق من كتاب الوطن، لأن الإنسان وتصرفاته وليد المحيط الذى ينشأ وينمو فيه. على ذلك فإننا نجنى اليوم حصادا مرا لسنوات أو عقود.

سياسات أسقطت عن عمد فكرة العدل الاجتماعى الذى ليس مقصورا بأى حال على نوعية بعينها من الاقتصاد، لكن يتم مراعاته فى أعتى النظم الرأسمالية، بمنظومات ضرائبية تحول بين «فرم» الناس، الذى من نتائجه تحولهم إلى كومة هامشية مع أنهم أغلبية، فتكون البيئة المثلى لنمو أنواع من العفن المدمر لإنسانية البشر. وعليه نرى يدا تقطع فى عز النهار بسيف، لا ندرى أى شيطنة وراءه وأرتال تحاصر وتتحرش بفستان يكشف عن ساقين فى الزقازيق. واعتداءات على رضع وصنوف من الأمراض الاجتماعية تشكل خطرا حقيقيا على صحة المجتمع. باختصار، واستميح القارئ عذرا، لدينا أكوام من البشر بلا معالم، طحنتهم منظومة تهميش ونزلت بآدميتهم إلى درك شبه حيواني. فلا تعرف كيف تحكم عليهم :هم فاعل أو مفعول به. هم نتيجة أو محصلة لفاعل سياسى اقتصادي، أو هم شوائب بالسليقة. تعقل الأمر والقوانين الاجتماعية يرجح أن لدينا على الأقل جيلين أو ثلاثة، لم يتلقوا تعليما حقيقيا ولا تربية ولا رعاية صحية ولا اجتماعية. ولا عوملوا هم وآباؤهم كمواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات. ولدوا وكبروا بنوع من الدفع الذاتي.. نستطيع القول إن غطاء أزيح عن وعاء ظل محكم الغلق طويلا. وعاء «مكمكم»، لا يتنفس محتواه هواء نقيا ولا يرى الشمس. وكان من الطبيعى أن تتولد فيه أنواع من البكتيريا الاجتماعية التى نراها اليوم طافية على السطح. وكل ما حدث أن أزيح الغطاء، فإذا بالجموح غير المروض والجنوح الذى يكاد يخرج حتى عن الفطرة. كل قرار اقتصادى له صدى اجتماعى وليس فى الأمر اكتشاف استعادة مجتمع سوى لن يتم بدروس الأخلاق والركون إلى مقولات يفرغها الواقع من المضمون.

نحن أمام حالة تستدعى جهادا أكبر لنجتز أو نجتث من الجذور انحرافات اجتماعية واعوجاجا سلوكيا. وكانت السياسات الاقتصادية غير العادلة السبب فى نشوئها وترعرعها فى غياب أى رؤى للعدالة الاجتماعية. حتى العدالة الاجتماعية فى أعتى النظم الرأسمالية موجودة، ليس فقط من المنطلق الاجتماعى أو الإنساني، بل من المنطلق البراجماتى الساعى لحماية الاستثمار ورأس المال. وليكن الأمر واضحا فى أذهان الحكومة أنه لا نجاة لفئة منفردة ولا استقامة لأى سياسة تفتقد اتساع الرؤية وتقصر العمل على قرار تلو قرار، دون إطار عادل، تتخذ من خلاله القرارات.. انتظار أريحية الأثرياء لا يبنى اقتصادا، خاصة لو أن أغلبهم لا نعرف له منبتا إنتاجيا !
 

التعليقات