من النهر إلى البحر مرة أخرى؟!

استخدمت تعبير الانتقال «من النهر إلى البحر» فيما يخص التنمية فى مصر مرتين من قبل: الأولى فى الأزمنة القديمة قبل عهد الثورات على سبيل الدعوة لأن تتخلص مصر من الأسر التاريخى لنهر النيل الذى جعلها دولة نهرية بامتياز تتمتع بما يعطيه النهر من حضارة ذات سمات بعينها، وتنتقل إلى البحرين الأحمر والأبيض المتوسط فتكون دولة بحرية بكل ما يعطيها البحر من آفاق وحضارات. والثانية كانت على سبيل الوصف لمجموعة التوجهات التنموية التى بدأت مع عام ٢٠١٤ والتى قرأت فيها إشارات إلى أن مصر تسير فى هذا الاتجاه. لم يكن فى كلتا المرتين ما يستنكر علاقة مصر مع النهر الخالد، أو حتى للمشاكسة مع «هيرودوت» عما إذا كانت مصر هبة النيل، أو أن مصر كانت فى الأول والآخر هبة للمصريين، وإنما اختبارا لهذه المقولة الأخيرة فإذا كانت مصر كذلك فإن المصريين قادرون على الخلاص فلماذا لا يكون ذلك فى اتجاه الشرق حتى البحر وتفريعاته حول سيناء فى خليجى السويس والعقبة؛ أو نحو الشمال والغرب التحاما والتصاقا بما هو ممتد ولا نهائى: البحر؟.

هذه المرة فإن الأمر لم يعد دعوة، ولا وصفا، وإنما قراءة فى واقع ينمو أمام أعيننا وربما آن الأوان للتفكر فيما سوف يترتب عليه من نتائج، وما يدعو إليه من متطلبات. المسألة ببساطة هى أن الأمر كله جديد على مصر، فالدولة النهرية الأولى فى العالم خلقت مدرسة عالمية فى التفكيرـ إيجيبتولوجى ـ يقوم على تأثيرات النهر على المجتمع والأمة والدولة. وبشكل ما فإن تنمية مصر خلال القرنين الأخيرين قامت حول النهر، وتنظيم تدفقه، وتعظيم العائد منه؛ فكانت مشروعات خزان أسوان فى العهد الخديوى ثم الملكى؛ ومن بعدها السد العالى و«توشكى» فى العهد الجمهورى، كلها تدور حول النهر، بل إن أفكار تنمية الوادى الجديد فى الصحراء الغربية دارت حول المدى الذى وصلت إليه المياه المتسربة من النهر بين رمال الصحراء الممتدة إلى نهاية البصر. من الناحية الإستراتجية البحتة، فإن أعظم من نظر لشخصية مصر الإستراتيجية العظيم جمال حمدان، فإن أفكاره كلها دارت حول مصر النهرية التى قدمت لعبقرية المكان. أستاذ جيلنا محمد حسنين هيكل نظر فى «السياسة الخارجية المصرية» فى دورية «الفورين أفيرز» الشهيرة فى عام ١٩٦٨ منطلقا من الحقائق الجيوسياسية التى أفرزتها علاقة سرمدية بين مصر ونهر النيل. وهكذا فإن ما جرى فى مصر كان نتيجة عملية تنظيم النهر وكبح جماحه وتوزيع مياهه وبناء الحضارة المترتبة عليه؛ وما جرى لها من القوى الخارجية كان نتيجة ما أعطاه النيل للمصريين فى واديه من دولة.

الآن تنبت فى مصر تغيرات جغرافية لم يعد ممكنا تجاهلها لأنها ببساطة تحدث على أرض الواقع. والحقيقة أنه لا يوجد بين مشروع محور قناة السويس (التفريعة الجديدة والأنفاق التى تربط بين الوادى وسيناء تحت القناة، ومشروع تنمية سيناء ذاتها) إلا الاندفاع باتجاه الشرق نحو البحر الأحمر وتوابعه. وفى هذا الاتجاه سوف نجد اكتشافات البترول فى البحر المتوسط، وحتى تخطيط الحدود البحرية مع السعودية واليونان وقبرص، ومعهم مشروع المثلث الذهبي؛ كلها تشى بفتح الطرق أمام الكتلة السكانية المصرية الكبيرة فى الوادى والدلتا لكى تلمس أقدامها مياه البحر. مؤتمر الشباب الأخير فى الإسكندرية فتح الأبواب إلى الاتجاه الإستراتيجى الغربى بسلسلة من التوصيات المتعلقة بتطوير محافظة الإسكندرية ومحافظة مرسى مطروح، وتطوير مدينة رشيد «الأثرية»، و«الانتهاء من مشروعات المناطق الصناعية بمحافظة البحيرة»، والبدء «الفورى» فى استكمال الدراسات التنفيذية لمشروع تنمية غرب مصر، والبدء «الفورى» أيضا فى إنشاء منطقة استثمارية ممتدة ٢٥ كيلومترا على ساحل البحر الأبيض فى محافظة كفر الشيخ. التوصية الحادية عشرة جاء فيها ما يلفت النظر: قيام مجلس الوزراء بالانتهاء من التقسيم الإدارى الجديد لمحافظات مصر بما يشمله من إضافة ظهير صحراوى لمحافظات الصعيد وامتداد حدودها حتى البحر الأحمر.

مثل ذلك ليس أحلام ليل تذهب مع مجىء الصباح، بل هى واقع ليس أيضا بحكم قرارات مؤتمر؛ وإنما هو واقع يجرى بعضه بما نفعله من بناء مثل مدينة العلمين على البحر الأبيض، أو بتنمية حلايب وشلاتين على البحر الأحمر؛ وبعضه الآخر نتيجة علاقاتنا مع الغير حيث توجد اكتشافات البترول والغاز؛ أو بما تضيفه إلينا من ثروات عملية تخطيط الحدود البحرية لكى يضيف إلى حدودنا الاقتصادية فى البحرين حسب القواعد المقننة لقانون البحار الدولى. ولكن المعضلة فى ذلك كله أن المصريين متشبثين بالنهر تشبث الوليد بثدى أمه؛ وهذه العلاقة أقامت التقاليد والثقافة النهرية بطريقة تجعل التخلص منها صعبة. ومع ذلك، ورغم الطبيعة المحافظة للمصريين فى مواجهة التغيير، فإن هناك ما يبشر، فخلال العقود الأخيرة عرف المصريون ظاهرة الهجرة إلى الخارج حتى بلغ عددهم ١٢ مليونا؛ وثبت أنه خلال مرحلة انتقالية على الأقل فإنهم إذا ما اطمأنوا أن الصلة سوف تظل قائمة مع نهر النيل بالطرق ووسائل المواصلات فإن «الغربة» لن تكون صعبة. وربما كانت مشروعات الطرق الكثيرة والمتشعبة الآن تسير فى هذا الاتجاه.

ولكن الطرق وحدها لا تحل معضلات الانتقال من النهر إلى البحر، ولولا أن مدن ٦ أكتوبر والقاهرة الجديدة والعاشر من رمضان كانت خليطا من أحياء الإقامة والصناعة والتجارة لظلت مهجورة حتى الآن. فما يحل معضلة النشأة الحديثة للمناطق البحرية الجديدة، ويجعل المصريين قادرين على الانتقال إلى عوالم جديدة بالجسد والفكر معا، أن يلتصق العيش بالعمل والفرصة معا. كل ذلك مع التنظيم الإدارى الجديد للمحافظات يقودنا إلى تصور جديد لمصر، وبنائها السياسى، يختلف جذريا عما تعودنا عليه طوال أكثر من خمسة آلاف عام. هذا التصور يقوم على قدر غير قليل من اللامركزية التى من ناحية تعطى قدرات كبيرة للاستثمار والتنمية المحلية؛ ومن ناحية أخرى يصب ناتج هذا فى شبكة الدولة كلها. الثابت أن مصر سوف تتعدى المائة مليون نسمة بسرعة؛ ومع هذا القدر من العدد وما سوف ينتشرون عليه من مساحة، فإن ما قام على حالة الالتصاق والازدحام على ضفتى نهر النيل من مركزية لن يكون صالحا للحالة الجديدة. الأمر على هذا النحو يحتاج إلى تكاتف الجهود من علماء الاجتماع والاقتصاد والسياسة وعلم النفس لكى يتم التعامل مع الواقع المصرى الجديد.

ذكر الرئيس السيسى فى مؤتمر الشباب أن المال ليس هو المشكلة التى تواجه مصر، وإنما «الفكرة» و«من ينفذها»، ولما كانت الأفكار لا تأتى دائما على طريقة «وجدتها» الشهيرة، وإنما عن طريق البحث العلمى، فإن المؤسسات المصرية من جامعات ومراكز بحثية وجمعيات أهلية كلها مدعوة للبحث فى هذه الحالة التاريخية التى ينتقل فيها المصريون الفلاحون فى الأصل من النهر إلى البحر. مثل ذلك لن يكون تغييرا بسيطا، أو مجرد توجه اقتصادى لتوليد الثروة الشخصية أو الجماعية، ولكنه أسلوب حياة، ونظام عمل، وطريقة معيشة، وربما فوق كل ذلك دفع فى اتجاه تغيير التفكير المحافظ إلى أفكار أخرى أكثر تقدمية. الانتقال لن يكون أبدا فى المكان، وإنما فى الفكر أيضا الذى يولده حرية الفرد واقتصاد السوق.

 

التعليقات