السياسة بلا أحزاب

الأحزاب المصرية ليست في حالة جيدة، يتساوى في هذا الأحزاب القديمة والجديدة، والأحزاب المعتدلة والراديكالية، والأحزاب العقائدية وأحزاب الأشخاص والمصالح. لضعف الأحزاب المصرية أسباب كثيرة، يتعلق بعضها بطبيعة نظام الحكم، وبظروف الاضطراب السياسي في السنوات الأخيرة. لقد تم انتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسي لرئاسة البلاد بأغلبية كاسحة دون أن يكون له حزب سياسي يروج للتصويت له ومنذ انتخابه، يمارس الرئيس السيسي سلطاته بسلاسة وفاعلية، ويطبق برامج إصلاح اقتصادي جذرية وجريئة، ويخوض بشجاعة في قضية الإصلاح الديني الشائكة، والأرجح أن الرئيس السيسي سيكتسح الانتخابات الرئاسية المقبلة، كل ذلك دون حاجة لحزب سياسي يدعمه، الأمر الذي يجعل الأحزاب السياسية تبدو كما لو كانت نوعا من الزائدة غير الضرورية، التي يمكن الاستغناء عنها دون ضرر.

على العكس، فربما أدى وجود أحزاب قوية إلى تعطيل إصلاحات ضرورية لا تحتمل التأجيل. فالإصلاح في بلادنا هو غالبا من الأمور التي لا تحظى بشعبية كافية، وهو ما وظفته الأحزاب السياسية المعارضة عادة لتعزيز شعبيتها، من خلال الانضمام لصفوف خصوم الإصلاح، والترويج لمطالبهم وحججهم، بغض النظر عن الأثر السلبي الناتج عن تأخر الإصلاح على الاقتصاد والإدارة والخدمات، وعلى الحياة السياسية في البلاد أيضا.

فالجميع بلا استثناء يطالبون بإصلاح من نوع ما، إلا أن كل جماعة وكل فرد يطالب فقط بالإصلاح الذي لا يمس مصالحه، في نفس الوقت الذي يقاوم فيه أي إصلاح قد يؤثر على هذه المصالح. فالجماعات والأفراد عادة ما يتسلحون بالصمت إزاء الإصلاحات التي لا تمسهم، ونادرا ما يتخذون موقفا نشيطا لتأييدها، في نفس الوقت الذي يتصدون فيه بقوة لأي إصلاح يمس مصالحهم، الأمر الذي يحرم سياسات الإصلاح من تأييد تحتاجه، فيما يجعلها تقابل بمقاومة قوية من أصحاب المصالح، وهي المقاومة التي كانت عادة كافية لتعطيل الإصلاح.

هذه هي خبرة العقود التي مرت منذ انتفض الشعب ضد ترشيد الدعم في يناير 1977، الأمر الذي أخر لسنوات طويلة إدخال إصلاحات دفعت البلاد ثمنا غاليا لتأخرها. فالستة ملايين موظف في الجهاز الإداري للدولة لا يحبون الحديث عن إصلاح إداري يجعلهم أكثر انضباطا وأقل فسادا؛ والمدرسون لا يحبون الحديث عن إصلاح للتعليم يفرض عليهم الخضوع لتدريب إلزامي، ويحرمهم من عائدات الدروس الخصوصية؛ وأصحاب السيارات يرفضون ترشيد دعم الوقود؛ وأصحاب المخابز يقاومون إصلاح منظومة إنتاج وتوزيع الخبز، بما يحرمهم من المتاجرة بالدقيق المدعوم في السوق السوداء؛ وعمال القطاع العام يقاومون المساس بمكتسباتهم الاشتراكية رغم الخسائر التي يحققها كثير من شركاته؛ وموظفو الإذاعة والتليفزيون يقاومون أي إصلاح يحد من أعدادهم المتضخمة بلا داع، رغم الفشل الإعلامي الذريع، وهكذا.

لسنوات طويلة نجحت جماعات المصالح المختلفة في إبطاء الإصلاح، وفي أغلب الأحوال نجحت هذه الجماعات في تحويل أحزاب المعارضة السياسية وجرائدها، بكل أطيافها من اليمين إلى اليسار، إلى منصات لمقاومة الإصلاح، وربما كان هذا أحد العوامل التي دفعت أهل الحكم لإهمال الأحزاب، وتهميش دورها، فلا هم احتاجوا الأحزاب لممارسة الحكم، ولا الأحزاب كانت مفيدة وهي خارج السلطة، الأمر الذي شجع على تهميش الأحزاب كلية، فيما كان الترويض الخشن ضروريا في بعض الأحيان لتحديد قواعد المباراة ورسم حدود الملعب السياسي.

ظروف التحول السياسي الاستثنائية التي تمر بها مصر، عقب اضطراب سياسي كبير، سمحت بتهميش الأحزاب. فعندما يكون تثبيت الدولة هو المهمة الأكثر إلحاحا، فإن الأحزاب السياسية لا تكون أداة ملائمة لممارسة الحكم، ولا تكون شريكا مناسبا في المعارضة. فالأحزاب لم يكن لها سوى دور محدود في رسم المسار والمصير السياسي للبلاد وقت الأعاصير السياسية الكاسحة. وبينما شاركت أغلب الأحزاب الرقص السياسي مع الإخوان زمن صعودهم، فإن تدخل الجيش كان العامل الحاسم الذي أنهى هذه المرحلة. لقد وفرت أحزاب المعارضة المدنية دعما وغطاء سياسيا لعملية إنهاء حكم الإخوان. وبينما يرى قادة ونشطاء الأحزاب أن هذا الإسهام يؤهلهم لدور الشريك، فإن أهل الحكم لهم رأي آخر، إذ يعتقدون أن التهميش الراهن للأحزاب هو المقابل المناسب لأداء الأحزاب طوال السنوات السابقة.

الديمقراطية هي الهدف النهائي للتنمية والإصلاحات الجارية. هذا هو ما يواصل الرئيس السيسي تذكيرنا به، في نفس الوقت الذي يذكرنا فيه بأن الأمر سيستغرق بعض الوقت. أيا كانت التوقيتات، فإن الديمقراطية والأحزاب متلازمان، ولم يعرف العالم بعد ديمقراطية غير حزبية. وكلما تعافت البلاد من آثار التحول السياسي المضطرب وشديد الخطورة، كلما تضاءلت القدرة على ممارسة الحكم دون حزب سياسي حاكم، وتعذر تعزيز الشرعية، والحفاظ على الاستقرار السياسي، دون أحزاب سياسية معارضة. فانتقال الوضع السياسي المصري من حالة الانتقال الاستثنائي التي يمر بها، إلى حالة طبيعية مستقرة، سيصاحبه حتما زيادة في الطلب على الأحزاب، وزيادة في الحاجة لها، وعندها لن يكون تهميش الأحزاب سياسة ملائمة.

بين اللحظة السياسية الراهنة ولحظة سياسية ديمقراطية ستأتي يوما، يظل السؤال مرفوعا بشأن السياسة الملائمة لملء فترة انتقال قد تطول. قد تحدث مفاجآت تقصر مرحلة الانتقال، لكن لا أحد يستطيع رسم خططه متوقعا المفاجآت، حتى وإن كانت النصيحة العامة هي ضرورة إبقاء الأعين مفتوحة تحسبا لكل الاحتمالات. الفترة الراهنة يمكن أن تكون شديدة الفائدة إذا أعد أهل الحكم خلالها خططا لتطبيع الوضع السياسي، ولتأسيس قاعدة حزبية، يجري من خلالها ممارسة السلطة وتنظيم التأييد الشعبي وبلورته. وكلما كان البدء مبكرا في الإعداد لهذه المرحلة كان أفضل، حتى لا تسبقنا الأحداث، وتداهمنا المفاجآت.

لن تكون مرحلة الانتقال السياسي الراهنة وقتا ضائعا إذا نجح أهل الحكم والمعارضة خلالها في تأهيل الذات والتكيف المتبادل. فمشكلات بناء الأحزاب التي تولد حاكمة في موقع السلطة هائلة ومخيفة. أما خارج السلطة، فإنه مازال على أحزاب المعارضة أن تتعلم الاستغناء عن «عربية الظلط» اللفظى والمادي -والتعبير لصديق عزيز- التي تأتي بها لكل معاركها السياسية، وعليها أيضا أن تدرك خطأ اختزال مشكلات بناء الأحزاب عندنا في موقف السلطة منها، ولهذا حديث آخر.

التعليقات