صديقى.. رفعت السعيد

عندما قابلته لأول مرة، كنت أشعر برهبة سياسى شاب وهو يجلس فى حضرة التاريخ.

كنا ثلاثة رؤساء أحزاب.. هو.. ود. محمد أبوالغار..وأنا. وكان اللقاء مع الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر الذى جاء على رأس وفد من منظمته ليراقب انتخابات الرئاسة المصرية فى ذلك الوقت.

فى بداية اللقاء شاهدت لأول مرة على الطبيعة وعن قرب، الدكتور رفعت السعيد وهو يتكلم أمام كارتر. كأن أكثر من نصف قرن من النضال السياسى يتحدث أمام الرئيس الأسبق لأقوى دولة فى العالم.

كأن كتابا من تاريخ مصر السياسى والنضال الحزبى السرى والعلنى، من عبدالناصر للسادات لمبارك، يتحدث أمامى، وكنت مأخوذا بهذا الكم الهائل من الثقافة السياسية وعمق التحليل وغزارة المعلومات والدقة فى التفاصيل، وعندما جاء دورى فى الحديث بعد د. أبوالغار، كان كل ما يجول بخاطرى هاجسا واحدا: ماذا أقول بعد رفعت السعيد؟!

وبعد دقائق من كلامى، لمحت السياسى المخضرم وهو يرمقنى بنظرة تشجيع وود لا أنساها.. هز رأسه بابتسامة تحثنى على الاسترسال والمضى قدما فى توصيل رسالة الأحزاب المدنية المصرية للإدارة الأمريكية.

ومنذ هذا اليوم.. صادقت التاريخ. وأصبح الدكتور رفعت السعيد صديقى الذى أحترمه وإن اختلفت مع اتجاهه السياسى، الرجل الذى عرفت قدره وقيمته ومدى وطنيته وإخلاصه لمبادئه وفى نفس الوقت عشقه لتراب هذا الوطن.

وكانت الصدفة دائما ما تضعنى إلى جواره أيام اجتماعات جبهة الإنقاذ الوطنى فى تلك الفترة المجيدة من تاريخ مصر، عندما كانت كل الأحزاب والتيارات السياسية من اليمين لليسار كلها على قلب رجل واحد، تعمل لهدف واحد.

وكان الدكتور رفعت السعيد بخفة ظله وقوة حجته وبدهائه السياسى ومناوشاته الخاصة مع الجميع، هو الأب الروحى والقيادى ثاقب البصيرة، والعراف الذى كان يعرف بالخبرة مدى صحة القرار وسلامة الخطوة.

كان الدكتور رفعت السعيد أستاذا بكل تواضع، ومعارضا بكل أدب، ومنافسا بكل نزاهة. ورغم فداحة الخسارة الوطنية، وخسارتى شخصيا لهذا الرجل العظيم، إلا أننى أشعر أن تاريخ مصر بعد 25 يناير أهدانى صداقته الرائعة، كما كان هو يهدينى أنا وزوجتى كل كتبه بتوقيعه كلما كنا نلتقى فى مكتبه أو فى مناسبة عامة أو عندما كنا نسافر معا فى محافظات وقرى مصر أيام نضال المصريين لإسقاط دستور الإخوان.

ورغم أنى كنت رئيسا لحزب (المصريين الأحرار) الذى يقف على الضفة الأخرى من أفكار الدكتور رفعت السعيد وحزبه (التجمع)، إلا أنه كان بثقافته الواسعة ومهاراته فى الحوار وإفساحه مساحات التفاهم والاتفاق، قادرا على اكتساب الحب والاحترام.

إن الذى عرفته من الحكايات التى كان يرويها الدكتور رفعت السعيد للتاريخ الحقيقى لمصر وقياداتها وشخصياتها السياسية، يتجاوز بكثير ما تحتويه الكتب المنشورة، وربما لا يمتلك أحد من معاصريه كنز المعلومات والوقائع التى عاشها بنفسه مع أسماء كبيرة.. عبدالناصر وخالد محيى الدين وقصة الخلاف الشهير فى مجلس قيادة الثورة وتوابعه، وحكاياته وخلافاته مع أنور السادات، وداخل المعتقلات والأسرار التى لم تُنشر لرموز وشخصيات سياسية وحزبية ونيابية، وصراعه الفكرى ومعاركه الطويلة مع جماعة الإخوان من قبل يوليو 1952 حتى آخر لحظة فى حياته.

وأعتقد أن الدكتور رفعت السعيد إذا لم يترك شيئا لمصر غير كتبه ومقالاته وفضحه لفكر الإخوان فهذا يكفى.

كان رفعت السعيد طرازا خاصا من رجالات مصر الأفذاذ، فكرا وثقافة موسوعية، ونضالا حقيقيا. واستطاع الدكتور رفعت أن يجمع بين الباحث والمفكر السياسى والمناضل الحركى والحزبى الجماهيرى.

لقد كان- رحمه الله- شخصية استثنائية، عرفته فقط آخر سبع سنوات فى حياته، ولكنها كانت تكفى لأكتشف وجها آخر للتاريخ السياسى لمصر.. وتكفى لأن أشعر بالفخر ما حييت، لأن الدكتور رفعت السعيد كان أستاذى وصديقى.

** (نقلا عن المصري اليوم)

التعليقات