ابعتلى نمرة المدام!

كنت أرسل كل صباح وردة لأصدقائى.. فجأة تغير الحال، وأصبحت أرسل مقاطع صغيرة من روائع كوكب الشرق أم كلثوم.. كل ليلة وكل يوم أسهر لبكرة فى انتظارك يا حبيبى.. ولا ليلة ولا يوم أنا دُقْت النوم أيام بُعدك.. كان البعض سعيداً بهذه الحالة الرومانسية، وسعيداً بالصوت والكلمات والموسيقى.. إلا أن الدكتور صلاح الغزالى حرب قال: هو فيه إيه؟.. ابعتلى نمرة المدام!

وكنت أجد حرجاً فى إرسال هذه المقاطع الملتهبة للصديقات، خشية أن يتم تأويلها بأى شكل من الأشكال.. صحيح هناك مَن سوف يرحب بروائع أم كلثوم.. وهناك مَن سوف يرحب بالحالة التى صرت إليها.. وهناك مَن يفسرها بأنها نوع من الهروب من الكلام فى السياسة والاقتصاد والدستور والكلام عن تعديله.. مع أنه لا هروب ولا أى شىء.. حالة تحدث من وقت لآخر، قد تعبر عن مشاعر مكبوتة من قديم الزمن!

نحن جيل من الأجيال التى لم تَبُحْ بمشاعرها.. ولم تُفصح عن دواخلها.. وكانت تسمع الكلام وتسكت.. أو تبكى فى جانب من البيت لا يسمع بها أحد، ولا يحس بها أحد، فحين كانت أم كلثوم تقول أروح لمين؟ نبكى لا نعرف لماذا نبكى؟ ولا متى نسكت؟.. الأجيال الجديدة لا تبكى ولا تكتم ولا تعرف الحرمان إلا مَن رحم ربك.. وحتى الآن نتناول النكتة ونتبادلها نخشى أن يعرف بنا أحد.. وربما ينظر إلينا الأولاد كأننا من العصر الحجرى!

ولا أخفى عليكم أننى هربت من السياسة فعلا إلى حالة من الذكريات والمتعة الروحية مع كوكب الشرق.. أسمع وأقرأ التعليقات.. كلها من جيل الكبار أو الأبناء الذين أدركوا آباءهم يستمتعون بسهرة أم كلثوم فى الخميس الأول من كل شهر.. بعض الشباب قال إنه وجد صعوبة فى البداية لفهم الكلمات. لكنه حين عاش قصة حب استطعم الكلمات ووجد أنها تعبر عن حالته بالضبط.. سرحت شوية مع أم كلثوم.. وشوية مع مأمون الشناوى.. وشوية مع بليغ حمدى.. وعند كل اسم كانت هناك قصة مع المتعة لا يمكن وصفها!

فمَن منا لم يتوقف عند هذه الروائع فى أى محطة من محطات حياته؟.. مَن منا لم يستمتع بمشاهدة جمهور أم كلثوم؟.. مَن منا لم يستمتع بالشعراء الذين غنت لهم؟.. مَن منا لم يستمتع مع عازفى الفرقة.. من أول القانون مروراً بالعود والناى.. وانتهاء بالكمان؟.. أين ذهب جمهور أم كلثوم؟.. أين اختفى؟.. أين هذه الفرقة الذهبية؟.. أين اختفت؟.. أين شعراء أم كلثوم؟.. منظومة كاملة.. أناقة كلمة وشياكة لحن وروعة أداء.. هكذا كنا قبل أربعين عاماً.. بعدها تخلّفنا فى الغناء كما تخلّفنا فى السياسة والاقتصاد!

ليست حالة مراهقة متأخرة على أى حال. إنها حالة سمو روحى.. ساعة عصارى ونسمة صيفية وأغنية لكوكب الشرق.. استعدت الذكريات الجميلة.. تذكرت وأنا أحمل راديو ترانزستور.. ينطلق مع دقات الخامسة بصوت أم كلثوم.. وأنا أتمشى على نهر النيل الخالد.. أتنفس هواء يخلو من عوادم السيارات والمصانع.. أسرح فى صفحة النيل.. وأسهر لبكرة فى انتظارك يا حبيبى.. أستنى منك كلمتين مش أكتر.. منتهى البراءة.. لا أزعجْنا أحداً.. ولا أزعجَنا أحد!

وحين تستمع إلى أم كلثوم لن يفوتك أن تستمتع مع زمنها العظيم.. ستتذكر عبدالوهاب والعندليب وفايزة ووردة.. ستتذكر طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس. جيل من العمالقة لا يمكن أن ننساهم، فى زمن أصبحت فيه الأغنية الأكثر شهرة «ركِّبْنى المرجيحة»!.
 

التعليقات