ابن خلدون وحوار حول ما هية السياسة؟

إن ابن خلدون رجل السياسة الذي انغمس فيها، احتك بملوك بني نصر في غرناطة، وابتعث إلى إشبيلية لمحاورة ملكوها، كما كان في دمشق مبعوثا لمحاورة تيمورلنك، عاش دسائس السياسة ومكائدها، لذا بات هو نقطة الانطلاق للحديث عن أهمية الحوار بين الحضارات، تجربته السياسية الفريدة انعكست عندما قدم مقدمته الشهيرة.

المفاهيم تتغير!

إن ما كان مقبولا خلال القرن الرابع عشر وما تلاه من قرون من سياسات ومفاهيم لم يعد مقبولا اليوم، وعلى الرغم من أن قيم التسامح وحفظ العهود، بل وحرية العبيد كان الإسلام قد رسخها حينما حل كديانة عالمية، وفي وقت لم يكن تسامح الغرب تجاه العبيد يحمل نفس روح الإسلام، فقد كان العبيد يعاملون معاملة قاسية ولم يكن من السهل إعتاق رقبة أي عبد، في حين صعد العبيد المماليك إلى حكم مصر وبلاد الشام، ولم يكن ذلك مستهجنا من قبل المسلمين، لو قارنا هذا بحقوق السود في الولايات المتحدة الأمريكية حتى السبعينيات، لاكتشفنا مدى تضاؤل حقوق الإنسان بين حضارتين، الأولى تسامحت مع الأرقاء وصعدوا إلى سدة الحكم والثانية حتى بعد تحرير العبيد ظلت لا تعترف بحقوقهم كاملة.

من هنا يجب فهم أن القيم والمفاهيم يمكن أن تختلف الرؤى حولها من حضارة لأخرى، وما يمكن أن يكون مقبولا في الشرق قد لا يكون مقبولا في الغرب، والعكس صحيح، لكن هناك قيمة كبرى قد اتفقت البشرية عليها في عصرنا الحاضر، وهي احترام الأديان ودور العبادة، فالإكراه الديني لم يعد حق المنتصر في الحروب أو في حالات السلم، فحرية العبادة والاعتناق صارت من المفاهيم المعترف بها الآن.

وعلى الرغم من تشديد الإسلام على ضرورة احترام دور العبادة الخاصة بالأديان الأخرى، إلا أنه جرت العادة، خاصة في ظل احتدام الاصطدام الإسلامي/ الصليبي على تحويل دور العبادة من مساجد إلى كنائس والعكس من كنائس إلى مساجد، حدث هذا حين هزم المسلمون في موقعة العقاب سنة 1212م بالأندلس، إذ سقطت في أعقابها اشبيلية وحول مسجدها إلى كنيسة سان سلفادور ومازالت المئذنة التي حولت إلى برج كنيسة شاهدة على ذلك، وكذلك الحال بعد سنوات حين سقطت القسطنطينية في يد محمد الفاتح إذ تحولت كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد جامع لعاصمة الدولة العثمانية الجديدة، هذا كله كان ضمن لغة عصر كان يقبل خلالها مثل هذه التغييرات، لكن في ظل العهود والمواثيق الدولية المعاصرة صار الحفاظ على دور العبادة في حالات الحروب أمرا محميا، لكن ما بقي هو أن لغة الحوار في الكتابات الموجهة تستدعي أحيانا شيئا من روح التاريخ لمخاطبة العصبية الدينية عند العامة دون مراعاة اختلاف المفاهيم من عصر لعصر، بل تقدم الإنسانية في تعظيم مفاهيم حقوق الإنسان.

إن تسييس التاريخ في الخطاب المعاصر، هو نتيجة استدعائه من قبل بعض الساسة ورجال الدين لخدمة أغراض ومصالح آنية، كما حدث مع البابا بنديكت حين أعطى خطابا، أثار به المسلمين، كما أن الغرب لسنوات لم يقدم اعتذارا عن استعماره بلاد المسلمين، بل حتى عن مساعداته القيمة لإقامة دولة إسرائيل، بل شكلت مواقف الساسة في الغرب تجاه حقوق الفلسطينيين عائقا أمام الحوار الموضوعي بين العالم الإسلامي والغرب.

فها هو ابن خلدون يشترط في الحكام شروطا أربعة هي “العلم والعدالة والكفاية وسلامة الحواس والأعضاء مما يؤثر في الرأي والعمل”، ثم نجد عند ابن خلدون عبر صفحات المقدمة اهتماما خاصا بالدولة وعمرها وتطورها، هذا الاهتمام مبعثه سببان: الأول هو معاصرته لسقوط العديد من الدول، والثاني هو نظرة المسلمين في حضارتهم للدولة ككيان يعبر عن الأمة.

لعل قرن ابن خلدون الذي كتب فيه المقدمة عكس مرحلة انتقالية ما، بين فكر هذه الشخصية الفذة التي عكست الانتعاش الثقافي والاقتصادي للعالم الإسلامي، في مقابل الأحوال المتردية لأوروبا التي بدأت تشهد في ذاك القرن فورانا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا قدر له أن ينقل أوروبا نقلة حضارية مهمة. لقد كان العالم في تلك الحقبة يموج بالتقلبات المتعاقبة بين التقدم تارة والتراجع تارة أخرى مع كثير من التبدلات.

عكس فكر ابن خلدون في القرن الرابع عشر تسامح العالم الإسلامي واستيعاب الفكر الإسلامي للعالم من حيث التنوع، فقد اعتبر أن الاختلافات بين الشعوب والأمم نقطة إيجابية، أولا من وجهة النظر العرقية واللغوية، فالتنوع يتأثر بكيفية حياة البشر ونواتج الأرض، والمصنعات، والعلوم والتقنيات، والأخلاقيات، وأخيرا الدين.

إن هذا المفكر المبدع يقودنا إلى مفاتيح عصره بل إلى مفاتيح طبيعة العلاقة بين البشر، إذ إنها علاقة بدت في فترات من التاريخ سليمة تقوم على تبادل متكافئ للمصالح، ففي القرن الرابع عشر شهدت أوروبا تحولا بعيدا عن التعصب الديني، كما شهدته مصر المملوكية، حين وقعت البندقية معاهدة مع مصر تعطي فيها الأولوية للمصالح الاقتصادية والتجارية، فحدثت نقلة هامة في العلاقات بين العالم الإسلامي وأوروبا، إذ أصبحت المنفعة المتبادلة أساسا لعلاقة سليمة.

نستطيع أن نستكشف اختلاف مفهوم السياسة بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي، فماهية السياسة في الفكر الغربي هي فن الممكن الذي يقوم على تعظيم الاستفادة من كل موقف حسب مقتضياته، فهي حركة تنظيمات عضوية تستخدم كل ما هو متاح وممكن من الأدوات والنظريات والوسائل، وتبدل قيمتها وغاياتها ومفاهيمها حسب ما تفرضه المواقف ومقتضيات اللعبة السياسية. على حين أن ماهية السياسة الشرعية تكمن أساسا وفي المقام الأول في كونها تعبيرا عن حركة وتنظيمات منضبطة ابتداء ومسارا ومقصدا، فهي عند ابن خلون «قوانين سياسية» أو هي حسب تعريف ابن الأزرق «ذلك القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال»، الأمر الذي يجعلها بحق رعاية متكاملة لكل الشؤون، وقياما على كل الأمور يصلحها واستصلاحا للخلق كافة بإرشادهم إلى ما فيه صلاحهم.

** نقلا عن المصري اليوم

 

التعليقات