واجبات ومسؤوليات المواطنة حلم ولا علم؟

ألهمني نقاش مع صديق مصري يقيم بالخارج لأن أكتب بعد فترة توقف. عبر الصديق عن ضيقه لتقاعس القوام الأعظم من المصريين عن أداء ما يُطلق عليه واجبات ومسؤوليات المواطنة. فسألته كيف يمكن أن نطلب من المصري أن يهتم بواجباته والدولة قد حرمته من حقوقه. ففاجئني الصديق بقوله إنه لا يجد العلاقة بين قضية حقوق المواطن وواجباته. واستطرد قائلا إن معظم أنظمة الحكم في الغرب أو في الشرق لا ترتقي لطموحات شعوبها، ولا تسعي للوفاء بحقوق مواطنيها. وأضاف أن الشعوب في كافة البلدان التي أقام فيها – وهي متعددة ومتنوعة – غير راضية عن أداء حكامها وسياسيها بالرغم من مجيئهم للسلطة من خلال انتخابات حرة. وبالرغم من هذا فإن سلوك المواطنين في تلك البلدان لا يتغير طبقا لمدي رضاهم أو غضبهم لأداء سلطات الحكم. واختتم تعليقه بأن واجبات ومسؤوليات المواطنة لا تصنعها السلطة بل هي نتاج تربية وتعليم وثقافة يشارك في تأسيسها وتعزيزها الأسرة والمدرسة والمثقفين وأصحاب الأعمال وقيادات الرأي وباقي عناصر البيئة المحلية.

والحقيقة أن ما ذكره الصديق لم يفارق تفكيري لعدة أيام وشعرت بالحاجة لأن أراجع ما قاله في إطار الواقع المصري الذي نعيشه حاليا والذي يتسم بالعديد من الأزمات الكارثية؛ أهمها تفشي الفقر والجهل العام، وتفاقم الزحام والفوضى بالطرق وفي كافة المنشئات الخدمية ، وانتشار القمامة والمخلفات بالطريق العام، وتدني مستوي الخدمات للمواطنين بمعظم المنشئات، وانحدار مستوي الأداء للعاملين واستمرار فساد الكثيرين وخاصة بالجهاز الإداري للدولة، واستفحال ظاهرة التحرش الجنسي، وتوغل السلوك القمعي القائم علي التمييز والتعصب بين العديد من فئات وأطياف المجتمع، وتضخم ظاهرة التهرب الضريبي والاحتكار والغش والسوق السوداء والبلطجة في الكثير من التعاملات بين الناس.
وقررت للحظات أن أتحرر من اعتقادي وأن افترض أن عملية الإصلاح السياسي ومباشرة المواطن لواجباته السياسية ليست من الأولويات الضرورية. كما تجاهلت حقيقة أن ما نعاني منه من أزمات وكوارث هو نتاج أنظمة حكم سيئة توالت علينا منذ عام ١٩٥٢ وحتى الأن. وحاولت أن أبحث عن الفرص المتاحة لإحياء عقد اجتماعي جديد يعيد الأمل لفكرة واجبات مسؤوليات المواطنة citizenship duties and responsibilities في مصر، بدءا من احترام وطاعة القانون، وقبول كافة الحقوق والمعتقدات وحرية إبداء الرأي لكافة أفراد المجتمع، والالتزام بالمسؤولية المجتمعية تجاه كافة أفراد المجتمع.
وسألت نفسي كيف يمكن تفعيل هذا السلوك المجتمعي في دولة تسلب حقوق مواطنيها. وتصورت جدلا أن مسؤولية التغيير ربما تقع على عاتق المجتمع المدني. إلا أنه لكي يتحقق هذا الدور فعلي الدولة أن تعترف بأهمية ارتقاء العمل الأهلي والتطوعي من خلال مراجعة التشريعات الحاكمة لدور جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني. وفي حالة استجابة سلطات الدولة لهذا المطلب، فلربما تصبح جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني هي المنوط لها تأسيس وتفعيل برامج للتثقيف المدني Civil Education وتنشيطها عبر قنوات التعليم والإعلام والنقابات والاتحادات والغرف والنوادي والمراكز الرياضية والوحدات الاقتصادية.
وفي إطار هذا التصور يأتي العمل على احترام القانون والنظام كأحد أهم المطالب التي يجب أن تتكاتف كيانات المجتمع المدني لترويجه وتفعيله. والحقيقة أن فرصة نجاح هذا الهدف يعتمد أساسا على قدرة المواطن على تفهم قيمة الالتزام تجاه الغير والتعاون مع الغير، وتأثير دور الفرد في المجتمع الصغير علي قدرات المجتمع الكبير، ومدي شعور المواطن بالانتماء المتصاعد – على سبيل المثال - للأسرة، وللجيرة، وللحي، وللمدرسة، وللقرية أو للمركز أو للمدينة، وللمسجد أو للكنيسة، ولمحل العمل أو لكيان اجتماعي أو ثقافي أو سياسي أو رياضي، وللمحافظة، وللوطن.
ويعتبر الالتزام بأداء الضرائب والرسوم المستحقة في موعدها من أولويات العمل على احترام القانون.  ولا خلاف على أن التهرب الضريبي ظاهرة غير أخلاقية تسببت في تفشي مستويات للفقر لم نشهدها من قبل. وبالرغم من الحاجة لدراسة الطاقة الضريبية للممولين ومقدرتهم على تحمل جميع أنواع الضرائب والرسوم وغيرها في ضوء الدخول والمستويات المعيشية في المجتمع، إلا أننا في مصر مازلنا نعاني من ضيق المجتمع الضريبي بصورة قد تكون غير موجودة في دول أخري. وقد يكون للمجتمع المدني دورا فعالا من خلال اتحادات ممثلة لدافعي الضرائب في حصر التجار ومقدمي الخدمات من أصحاب المهن الحرة والحرفيين والوسطاء وأصحاب الأشغال العامة غير المسجلين رسميا بمصلحة الضرائب والتواصل معهم والترويج لمبادرات تحفز المتهربين للتصالح والالتزام بأداء مستحقاتهم للدولة.
والامتثال للقانون لا يشمل فقط عدم السرقة أو القتل أو التجارة في الممنوعات، وإنما يمتد لعدم التجني والاعتداء على الحقوق القانونية للأخرين، وعدم التسبب في حوادث تؤثر على سلامتهم وأمنهم وحيازتهم، وكذلك لعدم الغش والاحتيال على الأخرين، وعدم ممارسة أي من وسائل الاحتكار أو الابتزاز في التعامل مع الأخر، وعدم التشهير وترويج الأكاذيب والشائعات للنيل من سمعة الأخرين. ويملك المجتمع المدني العديد من الأليات والبرامج القادرة على حماية المواطنين من ممارسات الخارجين على القانون.  
فإذا انتقلنا لضرورة قبول المواطن لكافة الحقوق والمعتقدات والآراء لكافة أفراد المجتمع، فسنجد أننا لا يمكن المضي قدما نحو تحقيق هذا التوافق الشعبي دون أن نصطدم بأخطر قضايا مصر عي الإطلاق وهي في رأيي قضية الحرية.
المصريون لأسباب تطول شرحها يجدون في الحرية تهديدا لمعتقداتهم ولأعرافهم ولأمنهم. وفي رأيي أن عدم ارتياح المصري لفكرة الحرية ترجع أساسا لرفضه لمبدأ حرية الأخرين. وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على أن تعرُضنا لقرون طويلة من القهر قد خلق بداخلنا غريزة قهر الغير. وبالتالي فإن التحرر يُخرِج الأخر من تحت عباءة القهر. إلا أن ما لا يدركه الكثيرون من المصريين هو أن حرية الفرد هي قاطرة التقدم لأي مجتمع.
الأمر الأخر الذي يزيد من عدم ارتياح المصريين لفكرة الحرية هي أنها تزيد من مسؤوليات الفرد نحو تحقيقه الانسجام بين مصلحته الخاصة ومصلحة المجتمع. والكثيرون يفضلون أن تترك تلك المسؤولية لأهل السلطة. وتناسوا هؤلاء أن الشعب عليه أن يكون هو مصدر السلطة.
ولكي تتبني كيانات المجتمع المدني مهام الترويج لقيمة الحرية وتنمية الإدراك الشعبي لإسهامات مبادئ الحرية في نهضة الأفراد والأوطان وتحقيق المساواة والعدل بين المواطنين، فلابد من وجود التشريعات المناسبة لإطلاق العنان لحرية الإبداع والبحث والمعرفة والاعتقاد والرأي من خلال جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني.       
ووعلي عكس ما يعتقد الكثيرون منا فإن حرية الفرد دائما ما تزيد من الالتزام بالمسؤولية المجتمعية تجاه كافة أفراد المجتمع. إن تحرير الفرد هو ما يسهم في تحسين قدراته وعدم الخوف على أمنه وعوزه وتحقيق رفاهته وتفعيل ولاءه لمجتمعه الصغير والكبير.
وتصبح الفرص متهيئة للعديد من كيانات المجتمع المدني للعمل علي تنمية الكثير من السلوكيات المفتقدة حاليا في مجتمعنا مثل الالتزام بأسبقية الدور والمرور أثناء فترات التكدس، والالتزام بإلقاء القمامة والمخلفات فقط في الأماكن المخصصة، والالتزام بكافة القيم الأخلاقية والسلوكية والمبادئ في أداء مهام العمل، والمشاركة في جهود محو الأمية وتنظيم الأسرة وترشيد الاستهلاك.
هذا هو ما تصورته في لحظة تفاؤل نادرة. والسؤال أنا في حلم ولا علم؟

التعليقات