لقاء مع الدكتور فاروق الباز؟!

أخيراً التقينا ولأكثر من ثلاث ساعات فى جامعة بوسطن الأمريكية، بعد وعود ومواعيد لم يتيسر أى منها خلال السنوات الماضية، وكان اللقاء هذه المرة فيه من الخصوبة بقدر ما كان فيه من شغف وتطلع. التقينا كثيراً من قبل فى منتديات رسمية وغير رسمية، واستمعت إليه وهو يتحدث عن «وادى التنمية»، وكثير من القصص الجيولوجية المثيرة، وفى كل مرة كنا نتواعد على اللقاء فى بوسطن التى يعيش فيها منذ عقود أستاذاً كبيراً فى جامعة عريقة، وهى المدينة التى تعودت الذهاب إليها كل خريف منذ عام ٢٠٠٥ للتدريس والحديث فى منتديات شتى. ورغم هذا الموعد السنوى فإن الأقدار كان لها خياراتها الأخرى، ولكن هذه المرة جرى الحديث التليفونى وتواعدنا على اللقاء والغداء أيضاً، وذهبت يوم الأربعاء قبل الماضى إلى الجامعة وأنا أحاول تذكر المرة الوحيدة التى ذهبت فيها إليها للمشاركة فى مؤتمر أظنه كان عن «الخصخصة» فى الشرق الأوسط فى نهاية الثمانينيات بقدر ما أذكر. لم تأت الذاكرة بشىء، ولم يحتاج الأمر جهداً كبيراً حتى أصل إلى «مركز الاستشعار عن بعد»، وهو يطل من الحجرة ٤٣٣، بابتسامة عريضة وعيون متسعة تبحث عن ذلك الفلاح الذى قد يضيع فى مدينة عصرية!.

جلسنا فى مكتبه الفسيح، وكما هو الحال فى كافة تجاربى السابقة مع الأساتذة الذين استقرت بهم الحياة لسبب أو لآخر للعمل والبقاء فى الغرب أو فى الولايات المتحدة على وجه التحديد، حيث تجد الأمكنة من السكن إلى المكتب، قطعة جرى نقلها من مصر إلى شاطئ المحيط الأطلنطى، ومن النيل إلى نهر «تشارلز» الذى يصب فيه. الصور كلها مصرية الطابع، وهناك صورة كبير تخطف البصر لنفرتيتى الملكة الجميلة، والمصحف بالطبع، وأرفف مكتبة، أو مكتبات ممتدة على مدى ثلاث حجرات، مع مكتب لم تتسع مساحته لكى تأخذ ما تبقى من الكتب فتناثرت فى الأركان. ماذا يا ترى يوجد فى هذه الكتب؟ يمكنك بالطبع أن تتخيل أنها كلها كتب وتقارير عن مصر، رغم علمك التام أن أستاذ الجيولوجيا بجامعة عين شمس، وأحد كبار أساتذة الجيولوجيا فى الولايات المتحدة، لابد وأنه يعرف ما هو أكثر بكثير من موطنه الأصلى. ولكن مصر حاضرة فى كل ركن، حتى ولو نافستها مساهمات فاروق الباز فى رحلات «أبوللو» المختلفة خلال عقد السبعينيات من القرن الماضى، حتى أن واحدة من المسلسلات التليفزيونية التى تبنت الفضاء الخارجى وضعت اسم «الباز» على مركبة تصل إلى كواكب بعيدة.

ماذا يفعل مصريان فى بلد غريب يفصلهما زمنياً عشرة أعوام من العمر، ولكنهما عاشا وعى التجربة المصرية خلال خمسة عقود مضت على الأقل، سوى أن يتحدثوا عن مصر؟ كلانا جاء من عوالم علمية مختلفة، هو من «الجيولوجيا» وأنا من «العلوم السياسية»، والجيولوجى يرى فى كل مسألة حجر، أما السياسى فيرى فيها أزمة، ورغم ذلك توافقنا على أن مصر بلد غنى بأكبر بكثير مما يدرك أبناؤه ذلك. مصر لديها ثلاثة مصادر للثروة لا نهاية لها، أولها الشمس، التى كما قال لى صاحبى «إن مصر تتعرض لأكبر كمية من ضوء الشمس وموارده الحرارية فى الكرة الأرضية». وثانيها المياه، حيث يوجد بحران الأبيض والأحمر يتصلان بمحيطات لا تجف. وثالثها الرمل أو مادة السليكون التى باتت الآن أصل كل الصناعات الخاصة بالتكنولوجيات الاتصالية والإلكترونية. وبالمناسبة قال لى الدكتور فاروق الباز إن أرض مصر هى الأكثر شبهاً بأرض المريخ، ولذا فإنه فى عام ١٩٧٨ عندما جرى التفكير فى إرسال مركبة فضائية إلى الكوكب الأحمر، فى يوم ما جاء فيما بعد، فقد جاء إلى مصر على رأس بعثة للبحث فى الصحراء الغربية، وبالمناسبة أرسلوا معه جهازاً للتجربة يستطيع الاتصال بالأقمار الصناعية وتحديد المكان الذى يتواجد فيه، والذى صار اسمه «جى. بى. إس» أو Global Positioning System. وبالمناسبة قال لى ما بدا مثيراً للغاية، إن «الزلط» والرمال، التى ما هى إلا «زلط» جرى نحته إلى حبيبات صغيرة كروية، كليهما كان فى مكانهما مياه كثيرة ومندفعة وثائرة فى أزمنة سحيقة جعلها تنحت صخوراً جاءت من جوف الأرض حتى وصلت إلى الصورة التى لدينا الآن.

ثلاث ثروات لا نهائية كلها أشبه بحاضنة لثروات أخرى لها الصفة التى توجد فى كل الثروات من الذهب إلى النفط والغاز، وهو أن لها أول وآخر، وهنا جاءت الصدمة التى قالها بسهولة ويسر إنه إذا كان يعرف مكانها فإنه لن يبوح به لأنه يعرف كيف أننا سوف نفرط فيها، ونبيعها خاما رخيصا وتافها كما فعلنا فى الرخام والفوسفات. الصناعة، والصناعة المتقدمة هى التى تليق بمصر لأنها هى التى ستحول الشمس إلى طاقة، والطاقة إلى ماء من تحلية مياه البحر، والرمل إلى منتجات إلكترونية من الموصلات والألياف الزجاجية والأجهزة. كل ما لدينا من ثروات معدنية لابد من تصنيعها لأنها ترفع الثمن مئات المرات. رحنا نلف على الخرائط المصرية فى المركز والتى تفوق الخرائط الأمريكية، ونتصفح مجلد تقرير مصر والمريخ، ويمر على مصر التى رآها جمال حمدان «عبقرية المكان» بينما يراها فاروق الباز «عبقرية الجيولوجيا» رغم ما تبدو عليه من صحراوات جدباء.

حان وقت الغداء فذهبنا إلى مطعم للأكل التايلاندى قريب من مكتبه، قبّلته صاحبة المكان فعرفت أنه «زبون» دائم، وبينما نفكر فيما قلناه من قبل قال لى وفى الصوت شجن وحزن: لقد كنت مصمما على رؤيتك لأنك من ريحة «أسامة». كان أسامة الباز شقيقه وصديقى مظللا على المكان منذ بداية اللقاء، وعندما حضَر فجأة كان الأمر يستحق لقاء آخر، فتناوبنا على ذكر الذكريات بسرعة، وكلانا يعرف الرجل الذى كتبت يوما أنه يستحق قلادة النيل لأنه كان الرجل الذى ساعد السادات فى التفاوض من أجل السلام، فقد كان بالنسبة له أكثر من شقيق وصديق ورفيق دراسة. رحم الله أسامة الباز وأطال عمر فاروق الباز وأعطاه الصحة والعافية.

 

التعليقات