مفاجأة نوفمبر!

مضى شهر على احتفائنا واحتفالنا كما نفعل كل عام بحرب أكتوبر ١٩٧٣ وما حدث فيها من إنجازات لعل أهمها ما تحقق من «مفاجأة استراتيجية» وضعت الحرب كلها فى مصاف العمليات العسكرية الكبرى فى التاريخ. وبالطبع فإن المفاجأة كانت دوما من «فنون» الحرب الأساسية التى أتقنها القادة العظام من العسكريين والساسة، ولكنها صارت علما من علوم السياسة، عندما أصبحت خاضعة للدراسة والبحث الدقيق الذى يبحث فى الأسئلة الكبرى عن الشروط والأسباب التى تؤدى إليها.
وربما كانت دراسة «البرتا هولستتر» عام ١٩٦٠ عن الهجوم اليابانى على «بيرل هاربر» وتدمير جزء مهام من الأسطول الأمريكى ومن بعده دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية، هى التى فتحت الباب لفيض من الدراسات عن عملية «بارباروسا» عام ١٩٤١ التى هاجم فيها هتلر الاتحاد السوفيتى وغير مسار الحرب كلها، وعمليات أخرى لها علاقة بالحرب الكورية، والهجوم على مصر فى عام ١٩٥٦ و١٩٦٧، الهجوم الصينى على الهند عام ١٩٦٢، وغيرها من المجلدات التى صدرت عن مفاجآت هجوم استراتيجى حدثت رغم أن كافة المعلومات الأساسية كانت تفشى سر الهجوم، ومع ذلك كان لدى القادة ما يجعلهم لا يصدقون بأن الهجوم سوف يحدث بالفعل. فى هذه الدراسات كلها فإن «مفاجأة أكتوبر» تقف طويلة القامة فى العلم السياسى والعسكرى، وفى العلم المقارن فإنها تقع فى المقدمة بين المفاجآت الكبرى فى التاريخ الحربى.
مفاجأة «نوفمبر» ١٩٧٧ لم تأخذ حظها الواجب فى الدراسات والعلوم الاستراتيجية رغم أن الكثير كتب عن تاريخها، وما حققته من تغير فى مسارات مصر وأمم وشعوب المنطقة العربية والشرق الأوسط. ومن الجائز أن ضعف الاهتمام جاء لأن أصحاب الواقعة لم يهتموا بها كثيرا، وبشكل ما فإن زيارة الرئيس السادات للقدس فى ١٩ نوفمبر ١٩٧٧ بدت أحيانا، كما لو كانت ذكرى يود المصريون نسيانها ويكفى أنها أدت إلى استعادة مصر لأراضيها المحتلة ولا تحتاج بعد ذلك لاحتفاء أو احتفال. ومن الجائر أيضا أن علم «المفاجأة الاستراتيجية» لم يهتم بالواقعة باعتبارها كانت بحثا عن السلام وليس الحرب، وهو ما جعل العلم مشوها لأن الاستراتيجية هنا فى معناها الشامل ليست معنية بأدوات السلاح أو الدبلوماسية، وإنما بتغيير واقع سياسى وقلبه رأسا على عقب. والواقع هنا كان استمرار الاحتلال الإسرائيلى للأراضى العربية، بعد مرور أربع سنوات على حرب أكتوبر وعامين على توقيع اتفاقية فصل القوات الثانية، ونزوع القوى الكبرى إلى فض يدها عن الصراع العربى الإسرائيلى بمحاولة عقد مؤتمر دولى لا ينعقد أبدا، وإذا قدر له الانعقاد فإنه يصبح رهينة للمزايدات العربية والسوفيتية التى تطلق حناجر كثيرة من عقالها، وفى النهاية تبقى الأراضى كما كانت عليه محتلة.
وفى الحقيقة فإن الإشارات كلها كانت تسير فى اتجاه المزيد من التشدد الإسرائيلى بوصول حزب الليكود وقائده المتعصب إلى الحكم، واستطلاعات الرأى العام الإسرائيلى التى كانت تشير إلى أن ٩٠٪ من الإسرائيليين يريدون الاحتفاظ بسيناء، وأقوال موشى ديان أن الاحتفاظ بشرم الشيخ بدون السلام أفضل لإسرائيل من السلام بدون شرم الشيخ. كانت غيوم كثيرة تلف النظامين الدولى والإقليمى فكان عصر الوفاق يلفظ أنفاسه والحرب الباردة «الثانية» تولد، والغزو السوفيتى لأفغانستان مع الثورة الإيرانية ومن بعدها الحرب العراقية الإيرانية، تتجمع كلها فى الأفق وتجعل القضية العربية تعود إلى ما كانت عليه قبل حرب أكتوبر ١٩٧٣.
صاحب المفاجأة فى «نوفمبر» كان هو ذاته صاحب المفاجأة فى «أكتوبر»، وفى الحالتين رغم فارق استخدام السلاح والسياسة، فإن «الاستراتيجية» كانت واحدة وهى أولا المفاجأة، وثانيا أن الغرض منها تغيير البيئة الاستراتيجية بحيث تنتهى إلى قيام العدو بتقديم تنازلات كافية لتحقيق الأهداف الوطنية فى استعادة الأرض المحتلة عربية فى العموم كانت أو مصرية خاصة. لم تكن البيئة الدولية والإقليمية كما أشرنا تشير إلى إمكانية خوض حرب أخرى، وكان منهج الرئيس السورى حافظ الأسد (تحقيق التكافؤ الاستراتيجى مع إسرائيل) لا يعنى إلا استمرار الاحتلال أو خوض حرب تكلفتها عالية. وفى الواقع كما نعلم الآن فإن المنهج السورى لم يحرر أرضا ولم يخضْ حربا، وكانت النتيجة النهائية هو ما نراه من تمزق الدولة السورية وهو أن حالها الذى يجعل ثلاث دول أخرى هى إيران وتركيا وروسيا تقرر مصيرها.
لم يكن أحد يعلم كل ذلك ساعتها بمثل هذا التفصيل الذى أفضت به الأيام، ولكن لعل ذلك هو الفارق ما بين عبقرية السادات وحساسيته الفائقة للوطنية المصرية فى ناحية، والتطورات العالمية والإقليمية من ناحية أخرى. كان السادات يفكر فيما لم يفكر فيه أحد، وهو أن يحدث مفاجأة استراتيجية دون استخدام للسلاح هذه المرة، رغم أن السلاح ظل حاضرا ليوم آخر، وإنما بالقيام بهجوم سياسى لا تتخيله إسرائيل ولا تقدره، وهو الذهاب إلى إسرائيل وإلقاء خطاب تاريخى فى الكنيست الإسرائيلى.
فى حرب أكتوبر لم يكن أحد فى إسرائيل يتصور أن المصريين وقادتهم لديهم الشجاعة لاتخاذ قرار الحرب. ورغم أنهم كان لديهم كل المعلومات حول التعبئة وجسور العبور والتوقيت إلا أنهم لم يتوقعوا، وعندما جاءهم شك كان أن ذلك لا يغير من الأمر شيئا فإن العرب سوف يهزمون كما هزموا فى مرات سابقة. وهكذا كانت المفاجأة مضاعفة فقرار الحرب جرى اتخاذه، والقتال كان مكلفا إسرائيل كما لم يكلفها قتال من قبل. هذه المرة، فى نوفمبر، فإن الرؤية الإسرائيلية للسلام كانت كما قال ديان أنه انتظر مكالمة تليفونية من العرب تسأل عن التنازلات التى تحتاجها إسرائيل، وعندما لم تأتِ المكالمة كان معنى ذلك أن الحماقة العربية غالبة، وأن إسرائيل سوف تستمر فى احتلال الأرض العربية حتى ينتاب العرب حكمة لا تأتى.
هذه المرة فى نوفمبر كانت إسرائيل تعلم الكثير، أن السادات يريد السلام، وأنه على استعداد لعقد مفاوضات تمهيدية تحت الرعاية المغربية بين حسن التهامى وموشى ديان، وكانت الإشارات والمعلومات تأتى من طهران (كانت أيامها عاصمة صديقة!) وبوخارست، ومع ذلك لم يكن أحد فى إسرائيل على استعداد لتصديق ما تأتى به العلامات فى السماء. وحتى عندما أعلن السادات فى «مجلس الشعب» أنه على استعداد للذهاب إلى القدس فإن تفسيرها كان أنها خدعة دعائية، وحتى عندما جرى اختبار الخدعة بتوجيه الدعوة، وأصبح السادات فى طريقه إلى القدس فإن إسرائيل اتخذت الاحتياطات العسكرية اللازمة مخافة أن تكون طائرة السادات حاملة لمتفجرات، أو سوف ينزل منها قوات خاصة، تقتل النخبة السياسية الإسرائيلية؟!
كانت مفاجأة «نوفمبر» لا تقل فى تأثيرها ونفوذها عن مفاجأة «أكتوبر»، بل لعلها كانت مكملة لها، وسيرا فى ذات المنهج العبقرى الذى يعرف كيف يميز ما بين منهج الاستراتيجى وأدوات هذه المنهج. فى الحالتين كان الهدف هو زلزلة المجتمع الإسرائيلى من الداخل وكسبه إلى صف أن الاحتلال له تكلفة عالية، وأن السلام ممكن إذا قامت إسرائيل بالجلاء عن الأرض المحتلة. لحسن الحظ أن أغلبية المصريين وقفت إلى جانب منهج السادات وأعطته ثقتها، وللأسف فإن الأقلية التى رفضت كانت هى التى لم تغتَل السادات فقط، وإنما اغتالت حلم السلام والتقدم لمصر. العرب كالعادة جاءوا متأخرين بمبادرة كمبادرة السادات فى قمة فاس، وبعد ثلاثة عقود فإن الحال فى المنطقة هو ما نعرفه جميعا. تحية للرئيس السادات زعيم مصر العظيم البطل فى حياته ومماته.
 
التعليقات