نقد المجتمع والسلطة ... ابن الحاج نموذجاً

يظن البعض أن مجتمعاتنا الإسلامية عاشت حالة من حالات الخنوع والخضوع للسلطة أو لرؤى مجتمعية بها عوار، لذا فإن البحث والتحليل في مصادر التراث الإسلامي يكشف عن شيء ما غير ظاهر للعيان كما في كتب التراث خارج إطار مدونات التاريخ التي كتبت للسلطة، ومن هذه المصادر كتب الفتاوى والنوازل، كتب الحسية، كتب الرحلات، لكننا سنقف عند مصدر كان نقدياً بصورة واضحة، وهو المدخل لابن الحاج أحد علماء الأزهر الشريف في العصر المملوكي.

لم يترك ابن الحاج أبو عبدالله محمد بن العبدري المالكي الفاسي المتوفى 737 هجرية في القاهرة، شيئاً إلا وانتقده، وإن كان قد تجنب نقد الحكام بصورة ظاهرة، لكنه بين ثنايا الكتاب يوجه نقداً للسلطة غير مسبوق.

أول ما يلفت الانتباه هو نقده التعصب الديني والمذهبي ويرى في التعددية شفاءً ودواءً، ومن ذلك قول ابن الحاج: «أن ينسب إليه ينسب بعض المتعصبين من الغلط والوهم لغير إمامه فإن كنت على مذهب مالك مثلاً، فلا تدخلك غضاضة لمذهب الشافعي أو غيره من الأئمة رضي الله عنهم، لأن الكل جعلهم الله رحمة لك لأنهم أطباء دينك كلما اعوج أمر في الدين قوموه وكلما وقع لك خلل في دينك اتفق الكل على ذهابه عنك وتلافي أمرك وإصلاحه، واختلفوا في كيفية الدواء لك على ما اقتضى اجتهاد كل واحد منهم على مقتضى الأصول في تخليصك من علته وحميتك وإعطاء الدواء لك فإذا رجعت إلى طبيب منهم وسكنت إلى وصفه وما اقتضاه نظره من المصلحة لك فلا يكن في قلبك حزازة من الأطباء الباقين الذين قد شفوا مرض غيرك... فإياك إياك أن تجد في قلبك حزازة لبعضهم».

هذا المنهج هو الذي جعل مدرسة الأزهر الشريف تعددية المذاهب، بين علماء هذه المذاهب حوارات مستمرة وباحترام بعيداً من العصبية المذهبية.

نجد أن ابن الحاج ينتقد تقبيل اليد ولو للعلماء، وإن كانت فيه إجازة للعلماء والصلحاء، وأنكر هذا بعنف عن غير هؤلاء فيقول ابن الحاج: «فلا يعرف أحد يقول بجوازه لا سيما إذا انضاف إلى ذلك أن يكون المقبل يده ظالماً أو بدعياً أو ممن يريد تقبيل يده ويختاره فهو الداء العضال الواقع بالفاعل والمفعول به وبمن أعجبه ذلك منهما لما ورد في ذلك من الوعيد...».

لكنه يكشف لنا عن سر انغلاق المسلمين على أنفسهم وبلادهم في تلك العصور، وهو كراهية فقهاء المسلمين السفر إلى بلاد لا يحكمها المسلمون، فأدى ذلك إلى عدم إدراكهم ما يحدث في أوروبا، حتى أن التجارة ما بين الإسكندرية وأوروبا قامت بها سفن أوروبية وتجار أوروبيون فتراكمت الثروات في البندقية وجنوة على حساب المسلمين، ويعود ابن الحاج نفسه فيناقض نفسه حينما يحض المسلمين على السياحة في الأرض فيذكر: «وينبغي له إذا خرج من بيته أن ينوي السياحة في أرض الله تعالى وأن ينظر ويعتبر في اختلاف الأرض وبقاعها وسهلها ووعرها وتفجر الأنهار منها وجريها وآثار الأمم الماضية وما جرى لهم وكيف صاروا خبراً وأثراً بعد أن كانوا رؤية ونظراً، وكذلك يعتبر بالنظر إلى اختلاف ساكنيها في الخلق والخلق والألوان واللغات المختلفات والمآكل والمشارب والملابس والعوائد والعجائب». إنه هنا يقدم لنا منهجاً يعزز أهمية السياحة كعائد اقتصادي وكمردود ثقافي، هذا ما يتناقض كلياً مع رؤى الجماعات المتطرفة والإرهابية والتي مارست العنف ضد السياحة في العديد من البلاد العربية والإسلامية.

اهتم ابن الحاج في المدخل بقياس مدى التزام أرباب الحرف والصناعات بالقواعد المرعية في كل صنعة بدءاً من تعليم الأطفال في الكتاتيب، وتعليم العلماء في المدارس (الجامعات بمصطلح عصرنا) إلى ممارسة كل الحرف، فنراه في صناعة الخبز يوضح أساليب غش إعداده، حتى درجة حرارة الفرن التي يجب أن تكون مناسبة لإعداد الخبز بصورة صحية جيدة، هنا يبدو ابن الحاج وكأنه رصد عيوب مجتمع القاهرة في العصر المملوكي، ويرصد أوجه الخلل، ولا يحمّل السلطة بمفردها هذا الفساد بل نراه يحمله لهذا المجتمع الذي قبل بهذا الفساد، ونراه في كتابه يعلم من يقرأه أو يسمعه كيف يتلافى عيوب صناعات عديدة بتعريفه أساليب الغش مثل صناعات الغزل والنسيج وغيرها.

وتحدث بإسهاب عن دفع الرشاوى لتولى المناصب في العصر المملوكي، وهو ما يعرف في ذلك العصر بالبذل، فيذكر عن ذلك: «فكيف تبذل فيها الأموال لا جرم أنه لما رجع الأمر فيها إلى بذل الأموال صار يطلبها من ليس فيه أهلية لها ولا يعرف الأحكام فضاعت أمور المسلمين بسبب طلبها.. وصارت التولية لمن لا يستحقها». هنا وضع ابن الحاج يده على سبب أساسي في انهيار الدولة المملوكية، وهو أن يولي المناصب العامة من لا يستحق بالرشوة.

التعليقات